للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لما جعل في تابوت ذهب تقدم إليه أحدهم فقال: كان الإسكندر يخبأ الذهب فقد صار الذهب الآن يخبؤه. وقال الآخر: انظر إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى. ودخل عليه آخر فقال: قد أمات هذا الميت كثيراً من الناس لئلا يموت، وقد مات الآن. وتقدم آخر فقال: ما لك لا تقل عضواً من أعضائك، وقد كنت تستقل بملك العباد. ودخل آخر فقال: ما لك لا ترغب بنفسك عن الجحر الضيق، وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد! ودخل آخر فقال: كان لا يقدر عنده على الكلام، فالآن لا يقدر عنده على السكوت. وقال آخر: كان غالباً فصار مغلوباً، وآكلاً فصار مأكولاً. وقال آخر: ما كان أقبح إفراطك في التجبر أمس مع شدة خضوعك اليوم. وقالت بنت دارا بن دارا: ما ظننت غالب أبي يغلب. وقال رئيس الطباخين: نضدت النضائد، وألقيت الوسائد، ونصبت الموائد، ولست أرى عميد القوم. وقال آخر: حركنا الملك يسكونه. وقال آخر: كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس.

أخذ قوله: حركنا بسكونه أبو إسحاق بن القاسم أبو العتاهية، فقال:

يا عليّ بن ثابت بان منّي ... صاحبٌ جلّ قدره يوم بنتا

قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحرّكتني لها وسكنتا

وأخذ قوله الآخر فقال:

كفى حزناً بموتك ثمّ إني ... نفضت تراب قبرك عن يديّا

وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا

[أحمد بن الخصيب وبعض أخباره]

وكان أحمد بن الخصيب القائم بأمر المنتصر بعد قتله أباه المتوكل واستيلائه على الخلافة، فلما مات المنتصر أقره المستعين أحمد بن المعتصم على ما كان، ولم يطل عمر المنتصر بعد أبيه.

ومن عجائب الاتفاقات ما حكاه بعض أصحاب التواريخ: أن المنتصر لما أصبح في الخلافة وجلس للبيعة، فرش في الدار بساط جليل كسروي، فوقف أحد رجال المنتصر على بعض صنائعه، وقد نظر إلى دارة فيها صورة رجل ميت مسجى على سريره، وقدامه ملك منتصب على سرير الملك، على رأسه التاج، والمرازبة قيام بين يديه، وعلى رأسه سطور بالفارسية؛ فلما نظر الرجل إلى الصورة وقرأ ما عليها دمعت عيناه، فدعا به وقال له: ما هذا الذي تنظر إليه؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين. قال: فلم بكيت؟ قال: طرفت عيني بثوبي. قال: لا بد من الصدق عما رأيت. قال: وقعت عيني يا أمير المؤمنين على هذه الصورة، فبقيت أعجب من حسن تصويرها، ثم قرأت ما عليها مكتوب فإذا هو: هذه صورة شيرويه بن كسرى قتل أباه فلم يعش بعده إلا تسعة شهور.

فانخذل المنتصر ووجم، ولم يعش إلا هذا القدر، فأقام أحمد بن الخصيب مع المستعين على ما كان عليه. وكانت حال أوتامش التركي قد توافت في أيام المستعين فاستخف به ابن الخصيب، وجاءه بعض كتابه فأسمعه ما كره فجاء إلى صاحبه فعرفه ما جرى، فكرب إلى المستعين، فحمله إلى مكروهه، فأمر بهدم داره واستصفاء أمواله وبعثه إلى أقريطش.

وكان ابن الخصيب غبياً جاهلاً. قال إبراهيم بن المدبر: كنت يوماً عنده فقدم الطعام وفيه هليون فأكب عليه، فقلت: أراك راغباً في الهليون، فقال: بلغني أنه يزيد في السهاد، ويؤيد في الباه، ثم جلسنا للشرب فغنت بعض القيان:

إنّ العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا

فقال: هذا الشعر لأبي. فقلت: قاتل الله جريراً ما كان أسرقه لشعر أبيك! وماتت له بنية، فخرج إلى جلسائه يعصر عينيه، وقال: قد قلت في هذه الصبية:

غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا

فقال له بعض جلسائه: أعز الله الوزير هذا مشهور في شعر جرير. فقال: لعله وافقه.

<<  <   >  >>