للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال لي أحمدٌ ليعلم ما بي ... أتحبّ الغداة عتبة حقّا

فتألّمت ثم قلت نعم ... ها جرى في العروق عرقاً فعرقا

قد لعمري ملّ الطبيب وملّ ال ... عواد مني ممّا أُعنّى وأشقى

ليتني متّ فاسترحت فإني ... أبداً ما حييت منها ملقّى

وكان أبو العتاهية سهل الشعر لينه، وتندر له الأبيات على صحة شعره فتحسن، وكان يقال: شعر أبي العتاهية سباطة الملوك تجد فيها الدرة والخرفة، وأنشد الجاحظ شعره فمجه فقال: ألفيته أملس المتون ليس له عيون.

وقد قال ابن الرومي لرجل أنشده شعراً سليماً من العيوب مطبوعاً عارياً من تدقيق المعاني: نحن أعزك الله نحب مع السلامة الغنيمة.

وكان الرشيد مغرماً بشعره مستظرفاً له. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ذكرت عند الرشيد بذم، وكان فيه أن قيل: هو يا أمير المؤمنين على حداثة سنه وقصر معرفته يخالفك؛ فيقدم العباس بن الأحنف على أبي العتاهية، فاستحضرني وقال: من أشعر عندك أبو العتاهية أم العباس؟ فعرفت ما أراد فقلت: أبو العتاهية: فقال: أنشدني للعباس فأنشدته أحسن ما أعرف له:

أُحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا

صرت كأني ذبالةٌ نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق

فقال: فأنشدني لأبي العتاهية فأنشدته أحسن ما أعرف له:

كأنّ عتّابة من حسنها ... دمية قسٍّ فتنت قسّها

يا ربّ لو أنسيتنيها بما ... في جنّة الفردوس لم أنسها

إني إذاً مثل التي لم تزل ... دائرةً في طحنها كدسها

حتى إذا لم يبق منه سوى ... حفنة برٍّ خنقت نفسها

فقال: هذا الذي أنشدت لأبي العتاهية من أعابيثه التي لا يلقى بها بالاً، ولكن هلا أنشدتني قوله:

قال لي أحمد ولم يدر ما بي ... أتحبّ الغداة عتبة حقّا

وأشد الأبيات، ثم قال: أيحسن أحد أن يقول: فتنفست ثم قلت: نعم. قلت: لا يا أمير المؤمنين وما أحفظ الشعر. قال: احفظه! وكنت أعرف به منه.

[من جيد شعره]

ومن جيد شعر أبي العتاهية قوله لأحمد بن يوسف، وكان له صديقاً قبل الوزارة، فلما وزر للمأمون جفاه:

أبا جعفر إنّ الشريف يهينه ... تناهيه من دون الأخلاّء بالوفر

فإن تهت يوماً بالذي نلت من غنىً ... فإنّ عزائي بالتّجمّل والصبر

ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى ... وأن الغنى يخشى عليه من الفقر

وقوله له وقد أتاه فقيل له إنه نائم:

لئن عدت بعد اليوم إنّي لظالم ... سأصرف وجهي حين تبغى المكارم

متى يظفر الغادي إليك بحاجةٍ ... ونصفك محجوبٌ ونصفك نائم

وقوله:

ميّت مات وهو في وارف العي ... ش مقيمٌ في ظل عيش ظليل

في عداد الموتى وفي ساكني الدّن ... يا أبو جعفر أخي وخليلي

لم يمت ميتة الوفاء ولكن ... مات عن كلّ صالحٍ وجميل

وهذا القول لعمرو بن مسعدة:

عييت عن العهد القديم عييتا ... وضيعت عهداً كان لي ونسيتا

وقد كنت في أيام ضعفٍ من القوى ... أبرّ وأوفى منك حين قويتا

تجاهلت عمّا كنت تحسن وصفه ... ومتّ عن الإحسان حين حييتا

وكان عمرو بن مسعدة صديقاً له قبل ارتقاء حاله، فلما بلغ في أيام المأمون إلى رتبة الوزارة ساله حاجةً فلم يقضها، فتأخر عنه فغضب عمرو وحجبه فكتب إليه:

بلوت إخاء النّاس يا عمرو كلّهم ... وجرّبت حتى أحكمتني تجاربي

فلم أر ودّ الناس إلاّ رضاهم ... فمن يزر أو يغضب فليس بصاحب

وانحدر إلى واسط فلم يعد حتى تغيرت حال عمرو.

فأما شعره في الزهد فقد فاق فيه الشعراء وبز النظراء؛ وغزله يلين كثيراً ويشاكل كلام النساء، كقوله:

لجّت عتيبة في هجري فقلت لها ... تبارك الله ما أجفاك يا ملكه

إن كنت أزمعت يا سؤلي ويا أملي ... حقّاً على عبدك المسكين بالهلكه

فقد رضيت بما أصبحت راضيةً ... ها قد هلكت على اسم الله والبركه

<<  <   >  >>