للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال الهيثم بن عدي: سمعت أعرابياً يقول: دخلت حضرتكم بعد عيد الأضحى، فإذا أنا بجمع عظيم عليهم أنواع الثياب من بيض وحمر وصفر، فكأنها زهر البستان. فقلت في نفسي: هذا العيد الذي يذكر أصحابنا الحضر يتزينون فيه، ثم رجعت إلى عقلي فقلت: وأي عيد هو؟ وقد خرجت بعد الأضحى، فبينا أنا باهت أفكر في أمري إذ أخذ بيدي رجل منهم. فقال: ادخل يا أعرابي. فدخلت فإذا بمجلس منضد بالنضائد، موسد بالوسائد، وفي صدره سرير، وعليه رجل جالس، والناس صموت عن يمينه وشماله. فقلت في نفسي: هذا الخليفة الذي يذكرون، فقبل الأرض وقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقيل: اسكت يا أعرابي، هذا عروس ونحن في عرسه؛ فهيىء لي موضع في المجلس، فجلست فيه. فقدمت هنات مدورات من خشب عليها ثياب متلاحمة النسج، فهممت أن أسند في ثوب منها أرقع به إزاري. فقيل لي: مد يدك يا أعرابي وكل، فإذا هو ضرب من الخبز لا أعرفه، ثم قدمت أنواع من الطعام حلوة وحامضة وحارة وباردة، فأكلت؛ ثم أتي بأوان فيها ماء أحمر فجعلوا يصبون في أقداح ويشربون، فناولني منه قدحاً؛ فقلت: أخاف أن يقتلني. فقالوا: يا أعرابي؛ إنه يهضم ما في بطنك، فشربته فحدث في قلبي طرب لا أعرفه، وهممت أن أهشم الذي بجانبي، وأن أقول للآخر: يابن الزانية! فأقبلوا يسألون رجلاً، ويقولون: أمتعنا بنفسك، فأتى بهنات لها رأسان مشدودان بالخيوط المحصدة؛ فأقبل يضرب رأسه، فيخرج منها رعد كهزيم الرعد وزئير الأسد. وأخرج رجل من كمه شيئاً كفيشلة الحمار، فأقبل يردد عليه به. وأقبل آخر ينتخ حتى كبح به الأرض. فقلت: مجنون ورب الكعبة!! ثم أقبلوا يضرعون إلى آخر ويرغبون إليه؛ فأتاهم بدابة من خشب عينها ف صدرها إذا فتلت أذنها تكلم فوها؛ فطرب كل من حضر وطربت حتى تقدمت إليه، وقلت: يا سيدي؛ ما هذه الدابة؟ فقال: يا أعرابي؛ هذه يقال لها البربط. فقلت: آمنت بالله وبالبربط، ثم سقوني قدحاً آخر، فأخذتني نومة لم يوقظني منها إلا حر الشمس من الغد.

[البحتري يهجو علي بن يحيى]

وفي علي بن يحيى يقول البحتري يهجوه:

وأكثرت غشيان المقابر زائراً ... عليّ بن يحيى جار أهل المقابر

فإلاّ يكن ميت الحياة فإنّه ... من اللؤم ميت الجود ميت المآثر

قال أبو العيناء: محمد بن مكرم والعباس بن رستم تعجلا الجنة في الدنيا، يشربان الخمر ولا يصليان.

[من مكارم أبي الصقر]

ومما يعد من مكارم أبي الصقر أنه لما ولي الوزارة بعد صاعد دخل عليه ابن ثوابة فقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين. قال: لا تثريب عليك يا أبا العباس يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين.

ولما ولي أبو الصقر الوزارة خير أبا العيناء فيما يحب حتى يفعله به. فقال: أريد أن يكتب لي الوزير إلى أحمد بن محمد الطائي يعرفه مكاني، ويلزمه قضاء حق مثلي من خدمه. فكتب إليه كتاباً بخطه فأوصله إلى الطائي، فسبب له في مدة شهر مقدار ألف دينار، وعاشره أجمل عشرة؛ فانصرف بأجمل ما يحب.

[كتاب أبي العيناء إلى أبي الصقر]

وكتب إلى أبي الصقر كتاباً متضمنه: أنا أعز الله الوزير طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدي من عثرة الدهر، وكبوة الفقر؛ وعلى أية حال حين نفدت الأولياء والأشكال، والإخوان والأمثال الذي يفهمون في غير تعب؛ وهم الناس كانوا غياثاً للناس، فحللت عقدة الخلة، ورددت إلي بعد النفور النعمة، وكتبت إلى الطائي كتاباً، فكأنما كان منه إليك، أتيته وقد استصعبت علي الأمور، وأحاطت بي النوائب، فكثر من بشره، وأعطى من ماله أكرمه، ومن بر أحكمه، ولم يزل مكرماً لي مدة ما أقمت، ومثقلاً لي من فوائده لما ودعت؛ حكمني في ماله فتحكمت، وأنت تعرف جوري إذا تمكنت، وزادني من طوله فشكرت؛ فأحسن الله جزاءك، وأعظم حباءك، وقدمني أمامك، وأعاذني من فقدك وحمامك، وقد أنفقت علي ما ملكك الله، وأنفقت من الشكر ما يسر الله لي. والله عز وجل يقول: " لِيُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سعته "؛ فالحمد لله الذي جعلك اليد العليا، والرتبة السامية؛ لا أزال الله عن هذه الأمة ما بسط لها من عدلك، وبث فيها من رفدك.

أبو العيناء أول من أظهر العقوق لوالديه

<<  <   >  >>