للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما كان التجني من المحبوب وتعنته الذي يكاد أن يفوت الغرض المطلوب يشتبه بالهجر والقطيعة ويعسر التفريق بينهما على من لم يخض لجة هذه الشريعة وجب بعد إذ أشرنا إلى حقيقة الأول أن نشير إلى الثاني ونذكر ما له من الأقسام والمباني سالكين في ذلك مسلك ديوان الصبابة إذ لا مزيد في هذا المحل على تقسيماته المستطابة فنقول: وقد قسم الهجر عند أهل المحبة بعد الاستقصاء إلى أربعة أقسام.

[القسم الأول]

[هجر الدلال]

وهو الممدوح الصفات المقصود بالذات وسببه علم المحبوب بمكانته عند المحب وأنه يتلذذ بالاساءة كما يتلذذ بالحسنة ولا تغيره الحوادث على اختلاف الأزمنة ولهذا إذا صفت مرآة أهل المحبة اتحدوا في كل رتبة فيقع لأحدهم بعد المبالغة في هذا الصفاء أن يعتقد ارتفاع الخلاف واتصاف كل أحد بما عنده من الأوصاف فانظر إلى قول بهاء الدين زهير في قوله:

عتب الحبيب فلم أجد ... سبباً لذاك العتب حادث

ما كنت أعلم أنه ... ممن تغيره الحوادث

فهو وإن لم يقع منه ما يوجب التغير كما أفهمه البيت الأول لم يعتقد تغير المحبوب بما يقع منه لأنه هو كذلك وفي هذا الأصل كلام للعارفين وكل يأخذ ما يناسبه من الاشارات والبهاء زهير لا يكثر عليه مثل هذا فلقد سمعت مولانا عارف الوقت الشيخ شمس الدين البكري أدام الله سدده يقول أنه كان إماماً عارفاً أو ذا لسان عارف وعلامة هذا القسم الأسعاف بالمطلوب وإن لم يكن كل آن والتلطف بالعاشق ورفع محله في غصون الهوان وهم يرون اليسير خطيراً والقليل كثيراً قال أستاذ الوجود في هذا المعنى:

ففي نظرة منها ولو عمر ساعة ... ترى الدهر عبداً طائعاً ولك الحكم

وفوق ذلك قوله رضي الله عنه:

وإن لم أفز يوماً إليها بنظرة ... لعزتها حسبي افتخاراً بتهمتي

ودون اتهامي إن قضيت أسى فما ... أسأت بنفس بالشهادة سرت

فانظر كيف ارتضى بأن يموت محباً وإن لم يعلم به أحد ويكون شهيداً مع ذلك فائزاً بالسعادة في غاية الرضا بذلك بعد إذ سأل الوصل أولاً ثم نظرة ما في يوم ما ثم التهمة بالمحبة الصادقة على العدم ثم هذه الرتبة وما أحسن التكميل بعزة النظرة في هذا المقام وعلاج هذا القسم ينحصر في الصبر المقرون بالرضا ثم التسليم الخالي عن الشوائب المكدرة ومعنى قوله رضي الله عنه ولو عز فيها الذل يحقق ذلك، وأما قوله:

ونفس ترى في الحب أن لا ترى عنا ... متى ما تصدّت للصبابة صدت

فزجر ينفي ويمنع غير النفوس الزكية والهمم العلية عن سلوك هذه المرتبة السنية رجع إلى كلام المترسمين قال بعضهم هجر الدلال أعذب من الوصال.

ويدل هجركم على ... أني خطرت ببالكم

وقال آخر

لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرت أني خطرت ببالك

ويستحب لمن وسم بالجمال وأخذ بقلوب النساء والرجال أن يكون كثير الدلال قليل التبذل فإن ذلك ادعى للسلامة وأبعد عن الملامة ابن وكيع.

قالوا عشقت كثير التيه ممتنعاً ... فقلت هيهات عنكم غاب أطيبه

لو جاد هان وقلت الجود عادته ... وإنما عز لما عز مطلبه

العباس بن الأحنف

يا قوم لم أهجركم لملالة ... مني ولا لمقال واش حاسد

لكني جربتكم فوجدتكم ... لا تصبرون على طعام واحد

وقلت

عدي واضمري خلفاً يلذ بخاطري ... كوصلك وعدمنك غايته الخلف

فعندي موتي في هواك وعلمك ... بذلك وصف لا يعادله وصف

[القسم الثاني]

[هجر الملال]

هو هجر منشؤه الملازمة مع اختلاف الخصال وتكون المحبة فيه عريقة بل منشؤها علة على الحقيقة وسببه ما ذكر من الاختلاف وتحري النفس طلب الاعتساف وعلامته تأثير مباعدة المكان وطول الأزمان وعلاجه التحبب والتخلق بخلق المراد وسلوك كل ما أراد وربما محته الهدية والملاطفة بالأخلاق المرضية والصفح مع حسن الصبر والمجاوزة عن الزلة وإن عظم الأمر وبعض العشاق من المترسمين صرح في علاجه بتباعد المكان والغيبة الممتدة إلى مدة من الزمان وفيه أنشد.

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

<<  <   >  >>