للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذه الحكاية أخرجها في نديم المسامرة والشهاب في منازل الأحباب. والحافظ مغلطاي في الواضح وأمثال هذه عندهم يعرف بالعشق المسلسل ونظيره ما حكاه الشيزري عن العتبي قال تذاكرنا العشق يوماً وبيننا شيخ ساكت فقلنا له ألا تحدثنا بما عندك في هذا، فقال جلسنا يوماً للشرب ومعنا قينة فغنت:

علامة ذل الهوى ... على العاشقين البكا

ولا سيما عاشق ... إذا لم يجد مشتكى

فقال شاب كان في المجلس أحسنت والله يا سيدتي، أتأذني لي أن أموت فقالت مت راشداً إن كنت عاشقاً، وكان يهوى القينة فاضطجع فإذا هو ميت فتنغص مجلسنا، ثم دخلت إلى أهلي فأخبرتهم بالقصة، وكان لي ابنة تهوى الشاب ونحن لا ندري. فلما سمعت الخبر قامت إلى خلوة وأنكرت قيامها، فدخلت إليها فإذا هي متوسدة كما وصفت لها الشاب ميتة، فلما خرجنا بجنازتها وبالشاب وجدنا جنازة ثالثة وإذا هي القينة ماتت حين بلغها موت ابنتي لأنها كانت تهواها.

[ومنهم ما أخرج الحافظ عن ابن دريد عن عبيد النعالي غلام أبي الهذيل]

قال رجعت من تشييع جنازة وقد اشتدت الهاجرة فملت إلى ظل أتفيأ به، فسمعت صوتاً مطرباً فطرقت الباب أستسقي الماء، فخرج شاب على أحسن صورة غير أن العلة لم تبق إلا رسمه فأدخلني إلى موضع أنيق بالفرش، وجاءت جارية فغسلت رجلي ثم بعد يسير جاءت بالطست فقلت قد غسلت قالت نعم، ولكن اغسل يديك للغداء، فغسلت وجاءوا بطعام فأقبل يضاحكني ويأكل متغصصاً والعبرة تخنقه، ثم جاء بشراب فسقاني وشرب، ثم قال قم بنا إلى نديم إلي، فدخلت معه إلى بيت لطيف فيه قبر قد صب حوله الرمل، فجلسنا فشرب وسقاني ثم أنشد يقول:

أطأ التراب وأنت رهن حفيرة ... هالت يداي على صداك ترابها

إني لا غدر من مشى إن لم أطأ ... جفون عيني ما حييت جنابها

لو أن حشو جوانحي متلبس ... بالنار اطفأ حرها وأذابها

ثم أكب على القبر مغشياً عليه، فجاءه خادم فرش عليه الماء فأفاق، وسقاني وأنشد:

اليوم ثاب لي السرور لأنني ... أيقنت أني عاجلاً بك لاحق

فغدا أقاسمك البلا ويسوقني ... طوعاً إليك من المنية سائق

ثم قال قد وجب عليك حقي، فاحضر غداً جنازتي فدعوت له بطول البقاء وانصرفت فقال عققتني إن لم تقل:

جاور خليلك مسعداً في رمسه ... كيما ينالك في البلا ما ناله

فانصرفت عنه فلم أعرف نوماً حتى أصبحت فأتيته فإذا هو قد مات، فدفن إلى جانبها قلت نقل في عجيب الاتفاق وليس من شأنه هذا إن هذا الشاب كان يهوى ابنة عمه ومنع عنها زماناً، ثم مات أبوها فتزوج بها فأقام معها ثلاث ليال ثم حمت ساعة من نهار فجلس وأخذ رأسها على ركبته، فشربت الماء فشهقت وماتت فدفنها في بيته، وأقام يبكي وقد هجر الطعام والشراب واللبس والنوم، فكانت مدته إلى أن لحق بها ثلاثة عشر يوماً.

وأيضاً من نظير المسلسل ما روي عن يونس النحوي، قال نزلت بصديق لي ببادية يقال له مالك العذري فإذا نحن بامرأة تقول قد تكلم فاستبشر النساء بذلك، فسألت صديقي عن الخبر، فقال رجل منا أجب ابنة عمه وتزوجها رجل وحملها إلى الحجاز فصار ملقى على فراشه من نحول لا ينطق، فقلت أحب أن أنظره فقمنا حتى وقفنا عليه، فقالت أمه يا ولدي هذا عمك مالك ففتح عينيه وأنشد:

ليبكني اليوم أهل الود والشفق ... لم يبق من مهجتي إلا شفا رمق

اليوم آخر عهد بالحياة فقد ... أطلقت من ربقة الأحزان والقلق

ثم تنفس فإذا وميت فقمنا عنه، فلما رجعنا إذا نحن بشابة بيضاء ناعمة الثياب تبكي بحرقة وجزع فسألناها عن السبب فأنشدت:

اليوم أبكي لصب شف مهجته ... طول السقام وأضنى جسمه الكمد

يا ليت من خلف القلب المقيم به ... عندي فأشكو إليه بعض ما أجد

انشر تربك أسرى لي النسيم به ... أم أنت حيث يناط السحر والكبد

ثم شهقت شهقة وماتت، فإذا هي تهوى الشاب قلت. قال في النزهة عن الرياشي عن يونس هذا، قال اجتمعت بصديق بعد ذلك اليوم، بمدة لا تزيد عن شهرين.

<<  <   >  >>