للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقال: "نسختِ الشمسُ الظلَّ"، أي: أزالته، و"نسخت الريحُ الآثارَ"، أي: أزالتها، وَمِنْهُ: تَنَاسُخُ القُرُونِ والأَزْمِنَةِ، والإزالَةُ هِيَ الإعْدَامُ.

وقد يُطْلَقُ النَّسْخُ بمعنى نَقْلِ الشَّيءِ وتحويله من حالةٍ إلى أخرى، مع بقائه في نفسه.

يقال: "نَسَخْتُ الْكِتَابَ"، أيْ: نقلت ما فيه إلى آخر. ومنه قوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة الجاثية: الآية ٢٩]، أي: ننقله في صُحُفِ المَلَائِكَةِ.

ويقال: "وَنَسَخْتُ النَّحْلَ"، أي: نقلتها من خليَّةٍ إلى أخرى، ومنه: المُنَاسَخَاتُ في علم المَوَارِيثِ؛ لانتقالِ المَالِ من وارثٍ إلى وارثٍ، ولكن هُنا تنوعت الآراءُ في أيِّ المعنيين يكونُ لفظُ النَّسْخ حقيقةً، وفي أيِّهِما يكون مجازًا؟. وفيه مذاهبُ حكاها العلامةُ أبو عمرِو بْنُ الحاجِبِ من غير ترجيحٍ، لكن ذهب القاضي أبُو بكرٍ البَاقِلَّانِيُّ ومن تابعه إلى أنه حقيقةٌ فيهما، فاسم النَّسْخِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هذين المعنيين.

وذهب القَفَّالُ الشَّاشِيُّ إلى أنَّه حَقِيقَةٌ في النَّقْلِ والتَّحْوِيلِ. وذهب الإمَامُ الجُوَيْنِيُّ إلى أنه حقيقة في الإزَالَةِ، مجاز في النقل، وَيُعَلِّلُ ذلك بقوله: "لأن النقل أخصُّ من الزَّوالِ"؛ فإن النَّقْلَ إعدام صفة وإحداث أخرى، وأمَّا الزَّوالُ فمطلق الإعدامِ، وكونُ اللَّفظِ حقيقةً في العامِ، مجازًا في الخاصِّ - أَوْلَى من العكسِ؛ لتكثير الفَائِدَةِ.

وقيل في الرَّدِّ على ما ذهب إليه الإمَامُ من التَّعْلِيلِ: لا نسلِّم أن النقلَ أخصُّ من الزَّوَالِ؛ لأن الإزالة على ما قيل هي الإعْدَام، والإعدامُ يستلزمُ زوال صفة الوجود وتجدد أخرى، وهي صِفَةُ العَدَمِ، وهما صفتان مُتَقَابِلَتَانِ، متى انْتَفَتْ إحداهما تحقَّقت الأخرى، وإذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيح، كان القولُ بالاشتراك أشْبَهَ، ولعَلَّ هذا هو دَلِيلُ من قال بالاشتراكِ، اللهمَّ إلَّا أن يقال: مُرادُ الإمامِ تَبَدُّلُ الصِّفَةِ الوجودِيَّةِ بِصِفَةٍ وجودية أخرى؛ فَيَكُونُ النَّقْلُ أخَصَّ، والله أعلم.

النَّسْخُ فِي نَظَرِ عُلَمَاءِ الأُصُولِ:

لقد عَرَّفَ عُلَمَاءُ الأصولِ النَّسخَ بتعارِيفَ كثيرةٍ، منها ما هُوَ فاسدٌ، ومنها ما هو صَحِيحٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>