للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تكلم ابن السيرافي بكل ما عنده من الكلام في هذا الشعر، إلا أنه لم يفلح ولم ينجح، وذلك لما قلت لك: إن من لم يرض نفسه في علم الأنساب والأيام، فاعترض على مثل هذا الشعر بكلامه، أهدف نفسه لألسنة الطاعنين. وإذا لم يعرف المتأدب القائل لهذا الشعر، ولا من قيل فيه، ولا القبيل المخاطب به: من هم، وممن هم - لم يتحقق معاني هذه الأبيات.

وكان من قصتها أن النعمان بن العجلان بن النعمان بن عامر الزرقي وزريق هو ابن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج - ولاه علي عليه السلام البحرين، فقال رجل من الأنصار:

أرى فتنةً قد ألهت الناس عنكم ... فندلاً زريق المال ندل الثعالب

فإن ابن عجلان الذي قد علمتم ... يبدد مال الله فعل المناهب

يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب

فإذا عرفت القصة ونظام الأبيات، لاح لك المعنى بحقيقته، ونادى على نفسه.

[قال ابن السيرافي قال الشاعر]

وأنت مكانك من وائلٍ ... مكان القراد من است الجمل

يعني أنه أخس قبائل بكر بن وائل وأوضعها، فإنه في خسة المنزلة وسقوطه لا يلتفت إليه، مثل القراد يتعلق باست الجمل.

قال س: هذا موضع المثل:

فلو كان يكفي واحداً لكفيته ... ولكن بريشٍ ما يطيرن طائر

كيف يكون هذا المهجو أخس بكر بن وائل وهو رجل من بني تغلب، وهذا أيضاً لجهل ابن السيرافي بالنسب الذي لا بد منه في معرفة مثل هذا من الشعر.

وقائل البيت عتبة بن الوغل التغلبي، يهجو كعب بن جعيل التغلبي، فهو إذاً أخس بني تغلب لا أخس بني بكر بن وائل. وهي قصيدة مليحة، أولها:

عسى أن تريع بسلمى النوى ... ويجمع ربي شتيت الأمل

سبتني بأشنب شتى النبا ... ت عذب المقبل صافٍ رتل

وفيها يقول:

وسميت كعباً بشر العظام ... وكان أبوك يسمى الجعل

وأنت مكانك من وائلٍ ... مكان القراد من است الجمل

أي كمكان القراد، أي أنت في مآخير القوم.

[قال ابن السيرافي قال الراجز]

إذا أكلت سمكاً وفرضا

ذهبت طولاً وذهبت عرضا

قال: كأنه قال: ذهبت في جهة طويلاً، وذهبت في جهة عريضاً، وأراد أن أكله السمك وهذا الضرب من التمر قد أطاله وأعرضه وأسمنه.

قال س: وهذا موضع المثل:

قد أدبر الأمر حتى ظل محتبياً ... أبو حبيرة يفتي وابن شداد

الذي يدل على جهل ابن السيرافي بهذا الرجز، وإقدامه على ما لم يكن يعرفه وتصديه لطلب التصدر بغير كفاية - أنه جاء بهذين البيتين متفرقين لا متوالين، ثم تفسيره له: أن هذا الضرب من السمك والتمر قد أطاله وأعرضه وأسمنه. وما أجود ما قال القائل:

من كل داء طبيب يستطب به ... إلا الحماقة ما يشفي مداويها

نظام الأبيات على ما أملاه علينا أبو الندى - وزعم أنها من مداعبات الأعراب -:

لو اصطبحت قارصاً ومحضا

ثم أكلت رابياً وفرضا

والزبد يعلو بعض ذاك بعضا

ثم شربت بعده المرضا

سمقت طولاً وذهبت عرضا

كأنما آكل مالاً قرضا

قال أبو الندى: هذا مثل قولهم:

إذا تغديت وطابت نفسي

فليس في الحي غلام مثلي

إلا غلامٌ قد تغدى قبلي

وقوله: سمقت طولاً وذهبت عرضا، يعني من الخيلاء.

[قال ابن السيرافي قال رجل من خثعم]

عزمت على إقامة ذي صباحٍ ... لأمرٍ ما يسود من يسود

قال: يريد عزمت على الإقامة إلى وقت الصباح، لأني رأيت الرأي والحزم يوجبان ذلك.

قال س: هذا موضع المثل:

كل فضل من أبي كعبٍ درك

القدر الذي ذكره ابن السيرافي في تفسير هذا البيت كثير منه، وذلك أنه لم يعرف قائل البيت، ولا السبب الذي أوجب قوله:

عزمت على إقامة ذي صباح

وهذا البيت هو لأنس بن مدرك الخثعمي، وذلك أنه غزا هو ورئيس آخر من قومه بعض قبائل العرب متساندين، فلما قربا من القوم أمسيا، فباتا حتى جن عليهم الليل، فقام صاحبه فانصرف ولم يغنم، وأقام أنس حتى أصبح، فشن عليهم الخيل، فأصاب وغنم وغنم أصحابه. فهذا معنى قوله:

عزمت على إقامة ذي صباح

وهو آخر الأبيات.

<<  <   >  >>