للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال الراوي: فلمّا وقفَ ما وقَف، ووكف وتجنَّبَ الوكَف، وخَصَّهُمْ بريق ذلكَ العَريق، وحصَّهم بإبريق ذيّالك البَريق، مدحوا لسانَهُ الأقصل، وذَمُّوا زمانهُ الأعصل، وقالوا: أف لعَصْرٍ يضوعُ به ملابُ لُبابك، وتضيعُ بَيْنَ أصحابه صُنوفُ انصبابِك، وتُزْجى لكَ الأذى وتسوقُ، وتَعْلو على رؤوس إفصاحك السّوقُ، ثُم إنَّهم مالوا إلى أنامله مقبِّلين، وانثالوا إليهِ بالتّحَفِ مُقبلين، واستقبحوا قَوْلَ ذاك القرين، واستفتحُوا بابَ ربْع معرِفتِه والعرين، فَرَبَّطَ ذلك النَّوال، وتأبّطَ حُسامَهُ وقال، بَعْدَ أن عادَ غَللُ صَبْرهِ بلَلا، وبَلَلُ دَمْعهِ غَلَلاً: البسيط:

بمصْرَ داري فلا واللهِ مُذْ رُفِعَتْ ... عنِّي التمائمُ ما أَوليتُها مَلَلا

أظلُّ إنْ ذُكِرَتْ مصر وزينتُها ... أفيضُ دَمْعاً من العينين مُنْهَمِلا

دار بها يُصْبحُ الموتورُ ذا مرح ... ويُبْرئ التُّرْبُ إنْ عَزَّ الدّوا المُقُلا

تَبيتُ مَنْ أصبحت فيها جَناجِنُهُ ... مملؤةً تَرَحاً مملؤة جَذَلا

فمذْ طلَعْتُ بجسمي والفؤاد بها ... ألفيْتُ قلبي من خَوْض الفَلا أفلا

لولا الحياءُ ولولا عِفَّةٌ وتُقًى ... لكنْتُ أول مَنْ حَوْياءهُ قَتَلا

ثم إنَّه خَبَّ خَببَ الخِرْياقِ، وحَبَّ حَبَبَ مُناوحةِ النِّياقِ، بَعْدَ أنْ سَدا بمسيرهِ، وشَدا لتَشْميره، ودَرَّ مِنْ مَدِّ مَدْمعي الدَّما، وفارقني عندما أراقَ مِنْ مُقْلَتِه عَنْدما.

المقامةُ التاسعةُ والثلاثونَ الرهاويّة

أخبرَ القاسمُ بن جريالٍ، قالَ: شُعِفْتُ حالَ مناوحةِ البِعادِ، ومصافحةِ الأبعادِ، ومُضارعةِ الصِّعَادِ، ومُصارعةِ الأصعادِ، باعتلاء الأعوجياتِ، واشتراءِ الشَّدْقَميَّات، واجتباءِ السَّمْهريَّاتِ، واجتناءِ ثمارِ الرّدينيَّاتِ، حتَّى خوَّفني الزَّمانُ، والتُمِسَ من شدة شدتي الأمانُ، فصرت قسورة القتام، وطاعِنَ مقاتِل الأقوام، وهَتاك كلِّ أريكةٍ وابنَ نَجْدَةِ كِلِّ عَريكةٍ، ونَضناضَ كلِّ وقيعة، وخَوّاضُ كُلِّ سَراب بقَيْعَةٍ، لا يَسْتخفُّني هُوف، ولا تلفني هُوِفٌ لَفوفٌ، ولا يسلُبُ المبارزُ رباشي، ولا تعلَقُ أظفارُ المُضافرةِ بجاشي، فحِيْنَ قدَّر القَدَرُ ثِقافي، وجَمَعَ بينَ غَينِ عينَيْ وقاني، آليتُ ألاّ أفارقَ الصَّفَينِ، أو يُسمعَ اسمُ في صَميِم العرَب على حَرفينِ، ولمّا خُضْتُ خضارة الخَطْبِ المَهيلِ، وصحبتُ أصحابَ الصَّلصلةِ والصَّهيل، مِلْتُ عن المدارس وأهَيْلهَا، وعدلْتُ إلى شَمسْ سماء المُداعسة وسُهَيلِها، أرباً أن أجمعَ بينَ الرياستين، وأحظَى بوصلِ تَيْنِ المهاتين، فبينما أنا بمجلسِ والي الرهى، وقَدْ قَرَنَ بينَ قَرَنِ النَّباهة والنُّهى، إذْ وَقَفَ بديوانِ ولايته، وإوانِ عَدْلهِ ورعايتهِ، شَيْخٌ قد قاربتْ قَرونَهُ المَنونُ، وفارنتْ قمرَ إلفِ قَدِّهِ النونُ، تَشْتمه شَيْخة ظاهرةُ الجُرأةِ، بارزةُ الذُّراةِ، قدِ اَحقوقفَ ظهرُها وارتهشتْ، ونَقَشتْ رواهِشَها وامتهشَتْ، وهو يَجْذبُها وتَهِرُّ، وبقربِّها وتَفِرُّ، فأنَّ الشيخُ أنَّةَ الثكول، وازبأرَّ لذلكَ النُّكولِ، وقالَ: الكامل.

يا عادلاً بعِداتهِ وعُداته ... أغنَى العُفاةَ وضيَّفَ الضبعانا

إنِّي حَمَلْتُ مِنَ الزمانِ متاعباً ... لمَّا تحكَّم في المَعَانِ وعَانا

<<  <   >  >>