للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ترّكناكَ لا ترجعْ إلينا لأنَّنا ... عهدناكَ خِدْناً للقِصاع الصغائرِ

قالَ: فشُدهتُ بإنشادِ البيتينِ، العريَّيْنِ من تحرُّكِ الشفَتينِ، وأقبلتُ بعدَ انحرافهِ، على تقبيلِ أطرافهِ، إلى أنْ سكَّنَ هَمَّهُ وسكَنَ ما أهمّهُ، وجعلتُ أكتفي بكؤوس مُضْحكاته، وأَصطَفي من لَبُوسِ حِكاياته، ما نسيتُ بهِ مغازلةَ الأوانس، وهويْتُ فيهِ مجانبةَ الموانس، حتى أمالني، إلى الغُوطةِ شَطَنُ شَيطانِ التشيُّط المَريدِ، واستمالَني نَيْرِبُ نَيْربِ بابِ البريدِ، فعرّضت بمعاودةِ العَطَنِ، وتخفيف أثقالِ فَقَارهِ والقَطَن، فقالَ لي: إنْ كنتَ تطمَع في المسيرِ، وتقنعُ مِن مصاحبتي باليسير، فأطعْ إرادتَكَ ودَعْني، ومَنِّني بطِيبِ عَوْدِ عَوْدِكَ وعِدْنِي، ثمَّ أَمَرَ بإحضار أصحابي، بعد تتابُع انتحابي، وسردَ عليهم سورةَ العويلِ، وعرضَ لديهم زنجيَّة ذلكَ التعويل، فأظهروا كنوزَ بكائهم، وأبرزوا مكنوز برحائهم، وهطلَتْ مدامع ذلكَ العبقريِّ، وجَرَى الوادي فطمَّ على القَري ولما مضّهُمْ ضَيْمُ ذلكَ الرُّداع، وتفاءَل كلٌّ بقَلْب ذاكَ الوَداع، أقالَ وقالَ وهَجّرْتُ بالهواجر وقالَ: الطويل:

أفارِقُهُ والنفسُ ليسَ تُفارق ... وأصدُقُهُ الصَّفْوَ الذي هو صادقُ

وأصْفِي له ودِّي وإنْ ظلًّ ظاعناً ... تُسامِرهُ دونَ الرِّفاقِ الأيانق

وأغضِي على لَذْع الرحيلِ وأنثنِي ... على طُور ذا التَّفريقِ والقَلْبُ صاعِق

وإنِّي وإنْ عزَّ اللقاءُ وأترِعَتْ ... بحارُ الجَفَا راج جَنَى العَوْدِ واثقُ

قالَ: فرثيتُ لُهزالِ ذاكَ السمينِ، وإظهارِ جَيْش ذيَّاك الكمينٍ، وأذريتُ لآلئ الدمع الثمين، وفارقتُهُ مفارقَةَ النكاح مِلْكَ اليمينِ.

المقامةُ الثانيةُ والأربعونَ الصوفيّةُ الأرز نكانيّة

حَدَّثَ القاسمُ بنُ جريال، قالَ: سَمَتْ بي قَدَمُ الذِّمَم الوفيَّةِ، والهمَم الصَّفيَّة والعفَّةِ المصطفيّةِ، إلى مصاحبةِ الصوفِيّةِ لأكتَسَي صَوت صُماتِهم، وأكتسبَ حُسْن سمتهم وسِماتِهم، فدخلتُ الحمّامَ لأبيدَ الوَسَخَ، وأعيدَ من سُوَر التنظُفِ مَا انتسخَ وحِيْنَ حَلَقْتُ لمَّتي، وأرقتُ ماءَ مُلَمّتي، زَهِدْتُ في عُنْصرِ الصَّخَب وخَصْلهِ، وصدفِ كِيس المكاسب وخَضْلهِ، الطويل.

وقلتُ على اسم الله هذا بفضله ... فلا زلتُ مشمولاً بفَضْفاض ذا الفَضُل

فما أسعدَ الإنسانَ إنْ باتَ خاليَاً ... خليّاً من الإخوان والمالِ والأهل

فما الذي أغنَى الملوكَ وقد ثوتْ ... تحيت الثَرَى رغماً علَى فرش المُهْل

وماذا الذي أبقَى الزَّمانُ وصَرْفُهُ ... على مَنْ مضَى قُدْماً مِنَ الكُثْرِ والقل

فكم مَزَّقَ التفريقُ قُمْصاً على أمرئ ... وكَمْ خَدَّد الإخوانُ خَدَّاً على خَلِّ

فلا تَحْسُدِ الحرِّيصَ يوماً لوَبْلِهِ ... فكم وابلٍ أمسى أقلَّ مِنَ الِّطل

وكم رَبِّ بُخْلٍ حامَ في حَوْمةِ الشّقا ... وكَمْ رَبِّ ظلِّ ظَلَّ في ناضر الظل

وكمِّ طامع ألقاهُ في الهُونِ حِرْصُه ... فأضحىَ سَليبَ العِزِّ في كِفِّة الذُلِّ

فأفٍّ على أفٍّ لِمَنْ باتَ قَلْبُهُ ... حليفَ مُنىً رهْنَ المَطامع في قُفْلِ

<<  <   >  >>