للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقلتُ لَهُ: ما الذي تريدُهُ، لينقادَ لكَ ليتُ الأرب ووريدُهُ، فقالَ: اعلم أنَّ مَحْتدَ هذا المسكين، ما برِحَ حميدَ التمكينِ، وسيعَ البقاع، رفيعَ اليفاع، وارفَ الجودِ، مُنْجدَ، المنجود فهل يسمح إحسانُك الذي لم نَزَلْ نرتجيه، بعارية خَلَق ملاءة يسجّيه، وتتوخى مواردَ توخيهِ، فإنَّ اللهَ في عَونِ العبدِ ما دامَ العبدُ في عَوْنِ أخيه، قال: فنبذتُ لَهُ ثوباً من أنفس الملابسِ، لم يتدنَّسْ بممارسةِ المُلابس، مشفوعاً بدينارينِ، لرِقَةِ رقَّةِ قولِه الليَّنِ، فتناولَهُم وصَرَفَ، وتصرَّفَ فيهما وانصرف، قال القاسم بنُ جريال: فحينَ عُمْتُ فيما شرحَهُ، وقُمْتُ على قَدَم معرفةِ ما استشرحتُهُ طَرقْتُ حَلْقَةَ النَّدم، وأطرقْتُ نحو القَدَم، ثم نهضتُ أخوضُ أقطارَهَا، وأعالجُ أمطارَهَا، وأرومُ قَطْعَ سككها وأقومُ على دكادك دِككها، إلى أنْ وجدتُهُ بالسوقِ، نَزيفاً في سرابيلِ الفُسوق، يتحرَّكُ من نَشوةِ المُدام، تَحَرُّكَ الغُصُن تحتَ تغريدِ الحَمام، فهممْتُ بأنْ أجُضَّ عليهِ بِحُسام العتابِ، وأنقضَّ إليهِ بسنانِ السِّبابِ، فغمدتُ مِخْذَمَ الصَّخَبِ، وعَدَلْتُ عن مَهْيَع اللَّعِبِ، وقُلْتُ له: هكذا تكونُ شِنشنةُ المكاشرينَ، أم هكذى تُمْطِرُ شآبيب المعاشرينَ، فقبضَ كفِّي وانقبضَ، وأعرضَ بعارضِه وامتعض، وقال لي: أتخالُني مِمَّنْ يَنْصِبُ لصديقه الحبالاتٍ، ويقرنُ أضغاثَ ضبثِ خداعه بالإبالات، أو يُمعِنُ في عِبادةِ لاتِ هذهِ الخُزَعْبلاتِ، أف لَقُبْح نِيَّتِكَ، وخبثِ طويَّتك، وغَثاثةِ مناسمتك، ورثاثةِ مُنافستك، فأقبلتُ أخدعُهُ، وأودُّ لَوْ خَدَعَ أَخْدَعُهُ، ثم قلتُ لهُ: ما حمَلَك على أخذِ ذَيْنِكَ، فأَرِحْني من مساورةِ مَيْنِكَ، وإن شِئتَ فاركبْ سبيلَ بينِكَ، وقُلْ: هذا فراق بيني وبينك قال: اعلم أنَّه وردَ عليَّ صديقٌ أودُّهُ غايةَ الودادِ، وأعدُّهُ للنّوَب الشداد، وأجلُهُ إجلالَ الأفراد، وأحِلُّهُ مَحِلَّ النكتةِ من الفؤادِ، ولم يحَضرْني ما أحضر إليه، وأمطِرُ من عَنانِ المعونةِ عليهِ، ففعلتُ ما صدرَ إليكَ إدلالاً عليكَ، وقد رهنتُهُ عندَ خَمّارٍ، على نِصْفِ دينارٍ، مِنْ ثَمَنِ مصطارٍ، وفي غدٍ يَصِلُ إلى دارِكَ، وينفصِلُ غَم جارِكَ، قال الراوي: وكنتُ لا أملك من ثَمَنِ خَمْرهِ، معْ ما اصطليتُ من حرارةِ جَمرهِ، وأغضيتُ على مَضَضِ المرض وعُسرهِ، سوى ثلاثة أمثال تُسعهِ وعُشرِهِ، فألقيتُ إليه عمامتي، وأيقنتُ قُبْحَ مُنقلبِ مَقامتي، وقلتُ له: اتركها عِوَضاً عمَّا رهنْتَ، واستُر قبيحَ ما استحسنتَ، وهَزيلَ ما استسمنتَ، ثُمَّ سِرْتُ معهُ بعدَ قَذْفِ الجِمارِ، وكَشْفِ قِناع الخَفَرِ والخِمارِ، وتَذَكُّر وقعةِ الحمار، إلى مسكنِ الخَمَّارِ، ولما مِلت إليه ميل القانط وشممت ريح الأحمر الحانط، قال لي: إنِّي لأظنَّكَ تعافُ أريجَ هذا الألنجوج، وتَخافُ مريج خَيْلِ هذي المُروج، فاحذر مجاورةَ هذا الأنام، واحرس سُورَ نفسِك من تسلق الأثام، واحفظْ عرضَكَ مَدَى الأيام، ولا تخامرْ خمرة هذا الإيام. وإن كنتَ تَخشى أن أجمعَ لكَ بهذه الحيلةِ، بين الحَشفِ وسوءِ الكيلة، فسارعْ إلى استرجاع العمامةِ، وأرحني من سحوح مِننِ هذه الغمامة، ثم إنه وقفني بباب الحانةِ، وألبسني جلابيبَ الإهانة، فلمّاَ طلع ناب فم افتكاري، وأنجمَ سحابُ سماء صَفْوِ اصطباري، ألقيتُ الدسكرةَ ذاتَ بابين، وقد امتطى طريقَ البَيْنِ، فأقبلتُ أقلِّبُ الكَفَّين، وأحترقُ احتراقَ المِرَّتينِ وأقولُ بعد عَلِّ تَيْنٍ المُرَّتين المؤمنُ لا يُلْسَعُ من جُحْرٍ مرتين.

المقامةُ الحاديةُ والثلاثون البصريّةُ

<<  <   >  >>