للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قال الصوليّ، فحدّثني يموت بن المزرَّع، قال: حدّثني الجاحظ، قال: قال أبو العتاهية لثمامة بين يدي المأمون " وكان كثيراً ما يعارضه بقوله في الإجبار " أسألك عن مسألة؛ فقال له المأمون: عليك بشِعرك. فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في مسألته ويأمره بإجابتي! فقال له: أجبه إذا سألك. فقال: أنا أقول: إنَّ كلَّ ما فعله العباد من خير وشرٍّ فهو من الله، وأنت تأبى ذلك، فمن حرّضك يدي هذه؟ وجعل أبو العتاهية يحرِّكها. فقال له ثُمامة: حرَّكها مَن أمه زانية. فقال: شتمني والله يا أمير المؤمنين. فقال ثمامة: ناقص الماصُّ بَظْرَ أمه والله يا أمير المؤمنين! فضحك المأمون، وقال له: ألم أقل لك أن تشغل بشعرِك وتدع ما ليس من عملك! قال ثمامة: فلقيني بعد ذلك، فقال لي: يا أبا معن، أما أغناك الجواب عن السَّفَه؟ فقلت: إنّ من أتَمَّ الكلام ما قطع الحجّة، وعاقب على الإساءة، وشفى من الغيظ، وانتصر من الجاهل.

[" الجمل المصري "]

قال يموت بن المزرَّع: كان أحمد بن المُدبّر إذا مدحه شاعر لم يُرضه شعره قال لغلامه: امض به إلى الجامع ولا تفارقه حتى يُصلي مائة ركعة، ثم خَلِّه، فتحاماه الشعراء إلاَّ الأفراد المجيدون، فجاءه الجميل المصريُّ واسمه حسين فاستأذنه في النشيد فقال له: قد عرفت الشرط؟ قال: نعم، قال: فهات إذن. فأنشده " من الوافر ":

أرَدْنَا في أبي حَسَنٍ مَديحاً ... كما بالمدحِ تُنْتَجَعُ الولاةُ

فَقُلْنَا: أكرمُ الثَّقَلَيْنِ طُرّاً ... وَمَنْ كَفّاهُ دجلةُ والفراتُ

فقالوا: يَقْبلُ المدحاتِ لكنْ ... جَوائِزُهُ عَلَيهِنَّ الصَّلاةُ

فقلتُ لهم وما يُعني عيالي ... صَلاتي إنّما الشَّأنُ الزكاةُ

فيأمرُ لي بكَسْرِ الصادِ منها ... فتضحي لي الصَلاةُ هي الصِّلاتُ

فضحك ابن المدبّر، وقال: مِنْ أين لك هذا؟ قال: من قول أبي تمام الطائي " من الكامل ":

هنَّ الحمام فإن كسرتَ عيافةً ... عن حائهنَّ فإنهنَّ حِمَامُ

فأعطاه مائة دينار، رحمهما الله تعالى، وعفا عنهم.

[" إبراهيم بن المهدي "]

أخبرني محمد بن يحيى الصُّولي، قال: حدثنا يموت بن المزرَّع، عن الجاحظ، قال: أرسل إلي ثُمامةُ يوم جلي المأمون لإبراهيم بن المهديّ، وأمر بإحضار الناس على مراتبهم، فحضروا، فجيء بإبراهيم يحجُلُ في قيوده، فوقف على طرف الإيوان، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال له المأمون: لا سلَّم الله عليك، ولا حفظك، ولا رعاك، ولا كلأك، يا إبراهيم؛ فقال له إبراهيم؛ على رسلك يا أمير المؤمنين! فلقد أصبحت وليَّ ثأري والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مَدَّ له الاغترار في الأمل، هجمت به الأناة على التَّلف، وقد أصبح ذنبي فوق كلِّ ذنب، كما أن عفوك فوق كلِّ عفو، فإن تعاقب فَبِحَقِّكَ، وأن تعف فبفضلك. قال: فأطرق ملياً، ثم رفع رأسه فقال: إنَّ هذين أشاراً عليَّ بقتلك؛ فالتفت فإذا المعتصم والعبّاس بن المأمون؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أمَّا حقيقة الرأي في معظم تدبير الخلافة والسياسة فقد أشارا عليك به، وما غشَّاك إذ كان ما كان مني، ولكنّ الله عَوَّدَكَ من العفو عادةً جريت عليها دافعاً ما تخاف بما ترجو، فكفاك الله. فتبسَّم المأمون، وأقبل على ثمامة، ثم قال: إنّ من الكلام ما يفوق الدرّ ويغلب السِّحر، وإنّ كلام عمّي منه، أطلقوا عن عمي حديده، وَرُدُّوهُ إليَّ مُكرَّماً. فلمّا رُدَّ إليه قال: يا عمّ صر إلى المنادمة، وارجع إلى الأنس، فلم ترى مني أبداً إلاّ ما تحبُّ. فلمّا كان من الغد بعث إليه بدرج فيه: " من الكامل ":

يا خيرَ منْ ذمَلَتْ يمانيةٌ بهِ ... بعدَ الرّسولِ لآيسٍ أَو طامِعِ

وأَبرَّ منْ عَبَدَ الإِلَهَ على الهدى ... نفساً وأَحكَمَه بِحقٍ صَادِعِ

عسلُ الفوارعِ ما أُطِعْتَ فإِنْ تُهَجْ ... فالموتُ في جُرَعِ السِّمامِ الناقعِ

مُتَيَقِّظْاً حَذِراً وما يخشى العِدَا ... نَبهَانَ من وَسَنات ليلِ الهاجعِ

واللهُ يعلمُ ما أَقولُ فإِنها ... جَهْدُ الأَليّةِ من حنيفٍ راكعِ

<<  <   >  >>