للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خرجت إلى أرض بني عامر لألقى المجنون فدللت عليه وعلى محلته فلقيت أباه شيخاً كبيراً وحوله أخوة المجنون مع أبيهم رجالاً فسألتهم عنه فبكوه وقال الشيخ أما والله لهو كان آثر عندي من هؤلاء جميعاً وإنه عشق امرأة من قومه والله ما كانت تطمع في مثله، فلما فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجه إياها بعد ما ظهر من أمرهما فزوجها غيره وكان أول ما كلف بها يجلس إليها في نفر من قومها فيتحدثان كما يتحدث الفتيان إلى الفتيات وكان أجملهم وأظرفهم وأرواهم لأشعار العرب فيفيضون في الحديث فيكون أحسنهم فيه إفاضة فتعرض عنه وتقبل على غيره وقد وقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه فظنت به ما هو عليه من حبها فأقبلت عليه يوماً وقد خلت فقالت:

كلانا مظهر للناس بغضاً ... وكلٌ عند صاحبه مكين

وأسرار الملاحظ ليس تخفى ... إذا نطقت بما تخفي العيون

غنّت في الأول عريب خفيف رمل وقيل أن هذا الغناء لشارية والبيت الأخير ليس من شعره.

قال: فخرَّ مغشياً عليه ثم أفاق فاقداً عقله، فكان لا يلبس ثوباً إلا خرقه ولا يمشي إلا عارياً ويلعب بالتراب ويجمع العظام حوله فإذا ذكرت ليلى أنشأ يحدث عنها ولا يخطيء حرفاً، وترك الصلاة، فإذا قيل له ما لك لا تصلي لم يرد حرفاً، وكنا نحبسه ونقيده فيعض لسانه وشفتيه حتى خشينا عليه فخلينا سبيله، فهو يهيم.

قال الهيثم: فولى مروان بن الحكم عمر بن عبد الرحمن بن عوف صدقات بني كعب وقشير وجعدة والحريش وحبيب وعبد الله فنظر إلى المجنون قبل أن يستحكم جنونه فكلمه وأنشده فأعجب به، فسأله أن يخرج معه فأجابه إلى ذلك، فلما أراد الرواح جاءه قرمة فأخبروه خبره ليلى وإن أهلها إستعدوا السلطان عليه فأهدر دمه إن أتاهم فأضرب عما وعده له بقلائص فلما علم بذلك وأتى بالقلائص ردّها عليه وأنصرف.

وذكر أبو نصر أحمد بن حاتم عن جماعة من الرواة أن المجنون هو الذي سأل عمر بن عبد الرحمن أن يخرج قال له: أكون معك في هذا الجمع الذي تجمعه غداً فأربي في أصحابك وأتجمل في عشيرتك وأفخر بقربك، فجاءه رهط من رهط ليلى وأخبروه بقصته، أنه لا يريد التجمل به وإنما يريد أن يدخل عليهم بيوتهم ويفضحهم في امرأة منهم يهواها وأنهم قد شكوه إلى السلطان فأهدر دمه إن دخل عليهم فأعرض عما أجابه إليه معه وأمر له بقلائص فردّها وقال:

وددت قلائص القرشي لما ... بدا لي النقض منه للعهود

وراحوا مقصرين وخلفوني ... إلى حزن أعالجه شديد

قال: ورجع آيساً فعاد إلى حاله الأولى.

قال: فلم تزل تلك حاله إلا أنه غير مستوحش إنما يكون في جنبات الحي منفرداً عارياً لا يلبس ثوباً إلا خرقه ويهذي ويخطط في الأرض ويلعب بالتراب والحجارة ولا يجيب أحداً إن سأله عن شيء، فإذا أحبوا أن يتكلم أو يثوب عقله ذكروا له ليلى فيقول: بأبي هي وأمي، ثم يرجع إليه عقله فيخاطبونه ويجيبهم ويأتيه أحداث الحي فيحدثونه عنها وينشدونه فيجيبهم جواباً صحيحاً وينشدهم أشعاراً.

ومن شعره:

أيا ويح من أمسى تخلس عقله ... فأصبح مذهوباً به كل مذهب

خلياً من الخلان إلا معذراً ... يضاحكني من كان يهوى تجني

الغناء لحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى من جامع أغانيه.

ومن شعره أيضاً:

إذا ذكرت ليلى عُقلت وراجعت ... روائع عقلي من هوىً متشعب

وقالوا صحيح ما به طيف جنة ... ولا الهم إلا بإفتراء التكذيب

وشاهد وجدي دمع عيني وحبها ... برى اللحم أنحاء عظمي ومنكبي

وقال:

تجنبت ليلى أن يلح بك الهوى ... وهيهات كان الحب قبل التجنب

ألا إنما غادرت يا أمَ مالك ... صدىِّ أينما تذهب به الريح يذهب

الغناء لإسحق خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيه لإبن جامع هزج من رواية الهشامي وهي قصيدة طويلة.

ومما يغني فيه منها قوله:

فلم أرَ ليلى بعد موقف ساعة ... يخيف مني ترى جمار المحصب

[ويبدي الحصى منها إذا قذفت به من البرد أطراف البنان المخضب]

فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب

<<  <   >  >>