للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّذْرُ فِي الصِّيَامِ وَالصِّيَامُ عَنْ الْمَيِّتِ (ص) : (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ هَلْ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ فَقَالَ سَعِيدٌ لِيَبْدَأ بِالنَّذْرِ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ قَالَ مَالِكٌ وَبَلَغَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ مِثْلُ ذَلِكَ)

(ص) : (قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ مِنْ رَقَبَةٍ يُعْتِقُهَا أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ فَأَوْصَى أَنْ يُوَفَّى ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ وَالْبَدَنَةَ فِي ثُلُثِهِ وَهُوَ مُبَدَّأٌ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ الْوَصَايَا إلَّا مَا كَانَ مِثْلَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْ النُّذُورِ وَغَيْرِهَا كَهَيْئَةِ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ خَاصَّةً دُونَ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي رَأْسِ مَالِهِ لَأَخَّرَ

ــ

[المنتقى]

[مَا يَفْعَلُ الْمَرِيضُ فِي صِيَامِهِ]

ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ الْمَرِيضَ إذَا شَقَّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ وَأَتْعَبَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٥] تَقْدِيرُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَمِقْدَارُ الْمَرَضِ الَّذِي يُبِيحُ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُقَدِّرَ لِنَفْسِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاَللَّهُ أَعْلَم بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَبْدِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَبْلُغُ صِفَتَهُ.

وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ إنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَوْ تَكَلَّفَ الصِّيَامَ وَالصَّلَاةَ لَأَتَى بِهِمَا بِمَشَقَّةٍ وَتَعَبٍ فَلْيُفْطِرْ وَلِيُصَلِّ جَالِسًا وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَاَلَّذِي يُصِيبُهُ الضُّرُّ بَانَ مِنْ الْخَوَى فِي رَمَضَانَ أَنَّهُ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ فَإِذَا بَلَغَ بِهِ مَا يُجْهِدُهُ فَلْيُفْطِرْ فَهَذَا تَقْدِيرٌ مِنْهُمَا وَلَيْسَ بِالْبَيِّنِ وَلَكِنَّهُ تَقْدِيرٌ بِمَا تَيَقَّنَ أَنْ يَئُولَ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَنْ يَخَافَ مِنْهُ وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنْ يَزِيدَ فِي مَرَضِهِ أَوْ يُجَدِّدَ لَهُ مَرَضًا غَيْرَ مَرَضِهِ أَوْ يُدِيمَ زَمَنَ مَرَضِهِ فَإِنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ وَمِثْلُ هَذَا الْمِقْدَارِ يُبِيحُ لَهُ الصَّلَاةَ جَالِسًا لِمَنْ خَافَ مِنْ الْقِيَامِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يَذْكُرْ دَوَامَ زَمَنِ مَرَضِهِ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ فِيمَا خَفَّ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَأَمَّا الْمَرَضُ الشَّدِيدُ فَلَا يُرَاعَى فِيهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى مَشَقَّةُ مَا يَتَكَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ وَلَعَلَّهُ الَّذِي أَرَادَ أَشْهَبُ فَجَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى جَوَازِ فِطْرِهِ لِمَشَقَّةِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤] قَالَ فَأَرْخَصَ اللَّهُ لِلْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ أَقْوَى عَلَى الصِّيَامِ مِنْ الْمَرِيضِ الَّذِي يُتْعِبُهُ الصِّيَامُ فَجَعَلَ جَوَازَ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ بِيَسِيرِ الْمَشَقَّةِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ الَّذِي يَلْحَقُهُ مِنْ مَشَقَّةِ الصِّيَامِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَصْلُ عِلَّةِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ الْمَشَقَّةُ وَكَانَ مَشَقَّةُ الْمَرِيضِ أَشَدَّ فَبِأَنْ يُبَاحَ لَنَا الْفِطْرُ مَعَهَا أَوْلَى وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ إلَّا لِخَوْفِ الْهَلَاكِ دُونَ مَا ذَكَرْنَا وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَعَلَّهُ خَافَ اعْتِرَاضَ مُعْتَرِضٍ بِهِ فَتَبَرَّعَ بِالْحُجَّةِ عَلَيْهِ.

[النَّذْرُ فِي الصِّيَامِ وَالصِّيَامُ عَنْ الْمَيِّتِ]

(ش) : النَّذْرُ هُوَ مَا يَنْذِرُهُ الْإِنْسَانُ وَيُلْزِمُهُ نَفْسَهُ بِالْقَوْلِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالتَّطَوُّعُ هُوَ مَا لَا يَلْتَزِمُهُ بِالْقَوْلِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ اخْتِيَارًا فَيَلْزَمُهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ إتْمَامُهُ وَقَوْلُهُ لِيَبْدَأَ بِالنَّذْرِ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ كَلَامٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ قَدْ لَزِمَهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ وَالتَّطَوُّعُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ فَمِنْ النَّظَرِ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِمَا قَدْ لَزِمَهُ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَطَوَّعُ إنْ شَاءَ.

(مَسْأَلَةٌ) :

فَإِنْ قَدَّمَ التَّطَوُّعَ صَحَّ صَوْمُهُ فِي التَّطَوُّعِ وَبَقِيَ النَّذْرُ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ أَسَاءَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يَصِحُّ تَطَوُّعُهُ قَبْلُ إذَا نَذَرَهُ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ لَا يَخْتَصُّ بِصَوْمِ النَّذْرِ بَلْ يَصِحُّ فِيهِ التَّطَوُّعُ وَغَيْرُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ النَّذْرُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَصُومَ فِيهِ غَيْرَهُ فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ وَكَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ نَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ صَوْمَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَإِذَا مَضَى زَمَنُ النَّذْرِ وَلَمْ يَصُمْهُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ تَعَلَّقَ قَضَاءُ صَوْمِهِ بِذِمَّتِهِ وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّذْرِ الَّذِي لَمْ يَتَعَيَّنْ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ.

(ص) : (قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ مِنْ رَقَبَةٍ يُعْتِقُهَا أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ فَأَوْصَى أَنْ يُوَفَّى ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ وَالْبَدَنَةَ فِي ثُلُثِهِ وَهُوَ مُبَدَّأٌ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ الْوَصَايَا إلَّا مَا كَانَ مِثْلَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْ النُّذُورِ وَغَيْرِهَا كَهَيْئَةِ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ خَاصَّةً دُونَ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي رَأْسِ مَالِهِ لَأَخَّرَ الْمُتَوَفَّى مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَصَارَ الْمَالُ لِوَرَثَتِهِ سَمَّى مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَتَقَاضَاهَا مِنْهُ مُتَقَاضٍ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ أَخَّرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ سَمَّاهَا وَعَيَّ أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>