للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنها ما جاء بأن الخمر ما خامر العقل، وقد يخامر العقل النوم، والبنج، والإغراق في الفكر، والغشي، وما أشبه هذا مما يعرض للدماغ، فظاهر الخبر يوجب أنه خمر. وقد روى ابن عباس قوله " ع ": حُرِّمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب، فقد أباح بقوله هذا القليل مما لا يسكر كثيره، وأوجب أنها لا تكون خمراً، إذ قليل الخمر وكثيرها حرام بالإجماع.

ورووا عن عليٍّ (رض) أنه قال: ما أُبالي أخمراً شربت أم مسكراً، ففرق بين الخمر والمسكر، ولو كان الخمر عنده ما أسكر، لما كان لقوله هذا معنى لأنه قال: ما أُبالي شربت خمراً أو شربت مسكراً، وهذا من قول عليٍّ، مع سائر الأخبار المروية في تحليل النبيذ الشديد، يدل على أن هذه الأشربة لم تكن خمراً عند أحدٍ، ولو كانت خمراً في الحقيقة، ما أقدموا على شرب قليلها وإنما أراد القائل منهم، حُرِّمت، وهي من خمسة أشياء، إلى ما يقيمونه مقامها من خمسة أشياء، وما يتناولونه عَرَضاً منها، من خمسة أشياء تفعل فعلها كقول القائل: فلان يأكل الخبيص، وما خبيصنا إلا التمر، وكذا قول عائشة (رض) وقد ذكرت الطيِّب فقالت: وما كان طيبهم إلا الماء. وكذلك قوله (ص) : كل مسكر حرام، أي يقوم مقام الخمر ويكون فيه من الصد عن ذكر الله، وفساد العقل ما يكون في الخمر، وكذلك قوله: ما خمرته فهو خمر، أي هو في معنى الخمر لشدته، ومعنى قول النبي (ص) : لا تشربوا مسكراً، يعني القدح الذي يوجب شربُكم له السكر، وذلك هو الآخر مما يشرب إذا كان الأول لم يوجب ذلك، ولا كان الإنسان عند شربه إياه سكران. وأما قوله: ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ، فإنما أُريد به قليل ما قُصد إلى السكر بكثيره، لأن من قصد ذلك فشربه لأول قدح يشربه، عليه حرام، لأنه قصد أن يدوم فيه إلى السكر.

وسُئل ابن عباس عن قول النبي (ص) : كل مسكر حرام، فقال: إن شرب أحدكم تسعة أقداح فلم يسكر فهو حلالٌ وإن شرب العاشر فسكر فهو حرام، وروى الضحاك عن ابن عباس قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم، وأما شراب ملوك الروم فإنه شراب يطبخ من عصير العنب وتطرح فيه الأفاويه فتعبق روائحها وطعومها وتزداد حرارة وطيب نكهة، وأهل الشام يسمونه الرساطون، والإسفنط لتطييبه، النفس وروى شريك عن عمرو بن حُريث، قال: سقاني ابن مسعود نبيذاً شديداً من جرِّ أخضر. وروى ابن قتيبة يرفعه إلى أنس بن مالك، أنه كان يشرب النبيذ الصلب الذي يكون في الخوابي. وقد أجمع الناس جميعاً على تحريم الخمر بكتاب الله عزَّ وجل إلا قوماً من مجَّان أصحاب الكلام فإنهم قالوا ليست الخمر محرمة، وإنما نهى الله عن شربها تأديباً كما أنه أمر في الكتاب بأشياء ونهى عن أشياء على جهة التأديب وليس فيها فرضٌ، كقوله في العبيد والإماء، فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً، وكقوله في النساء: واهجروهن في المضاجع واضربوهن، وكقوله: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط، وقالوا: لو أراد تحريم الخمر لقال: [حرمت عليكم الخمر كما قال] حرمت عليكم الميتة والدم، وليس قول هؤلاء حجة على ما أوردناه من الإجماع على تحريمها.

وكان عبد الله بن داوود يقول: ما هو عندي وماء البركة إلا سواء. وقال لا بأس أن يشربه الرجل على أثر الطعام كما يشرب الماء، وأكره إدارة القدح. وقال: من أدار القدح لم تجز شهادته وشهد [رجل] عند سوَّار القاضي، فلم يُجز شهادته، فقال:

أما النبيذ فإني لست تاركه ... ولا شهادة لي ما عاش سوار

وكان كثير من الحجازيين يترخص فيه حتى غلط فيه مالك. وما حرَّم الله شيئاً إلا عوض ما هو خير منه، ما يطيِّب النفس ويصفي اللون ويهضم الطعام، فلا يبلغ منه إلى ما يذهب العقل ويصدع الرأس وإن كان يشرك الخمر في جناياتها وجميع آفاتها.

قالوا وأما قولكم إن الخمر ما خُمِّر والنبيذ كله يُخمَّر فهو خمر، فإن الأشياء قد تتشاكل في بعض المعاني فيُسمى بعضها بعلةٍ فيه، ولا يطلق ذلك على الاسم الآخر، ألا ترى أن اللبن قد يخمر بروبة تُلقى فيه ولا يسمى خمراً، وأن نقيع التمر يسمى سُكراً ولا يُسمى غيره من النبيذ سكراً، وإن كان يسكر، وهذا في كلام العرب أكثر من أن يحاط به، ورأيت اللبن قد يسكر إسكاراً النبيذ، يقال قوم ملبنون، وقوم روبي إذا شربوا الرائب فسكروا منه. قال بشر بن أبي خازم

<<  <   >  >>