للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلو كنت تفعل ذا في الطَّعا ... م لزمت قياسَك في المسكرِ

وكان بعض الكرماءِ يأخذ نفسه بإحضار الدَّنِّ بطينه وينصبه بحيث يراه إخوانه ومنادموه فتُملأ منه الآنية بين أيديهم حتى يتبينوا أن الشراب واحد لا خلط فيه. ومن أكثر الإنصاف في هذا أن يُفرد كل نديم بآلته ومزاجه ويُحكمه على نفسه ويُقلده سقيها على حسب طاقته واحتماله إلا أن من كان غير متسع في الآلة والآنية، فما أعجزه وتعذر عليه منها، فإن العدل في السقي يُمكنه ولا يُعجزه، ويستحسن لأبي نواسٍ قوله:

ولست بمستعفٍ من السكر صاحياً ... إذا كان يهوى أن أصير إلى السكر

ولكنني أسعى إلى السكر واثقاً ... بما فيه إت أخطأت من سعةِ الصدر

فأما طلب الحاجة على النبيذ، فقبيح بالنديم أن يستميح رئيسه على سكره ويُرى ذلك منه يجري مجرى الخديعة ويدخل في باب الحيلة. وكان بعض الأجواد لا يُعطي على الشراب شيئاً حتى يصحو إشفاقاً أن يقال أن السكر جرَّأه على ذلك. فأما إن عدل عن المسألة لنفسه واستماح لغيره فإن ذلك يدخل في باب حسن المحضر، وإذا رفعت الضرورة إلى المسألة فالأحسن في ذلك أن يتوخى له في الأحاديث والمعاريض ما يتدرج السؤال في أثنائِه على ألطف ما يمكن في ذلك وأقربه من النادرة والفكاهة، كما فعل المفضل الضبِّي، وقد رأيت المهدي فلم يزل يحدثه ويناشده حتى جرى ذكر حمَّاد الراوية، فقال له المهدي: ما فعل عياله؟ من أين يعيشون؟ قال: من ليلةٍ مثل هذه كانت له مع الوليد بن يزيد.

[ذكر عدد الندامى وكثرتهم وقلتهم]

فأمَّا كثرة عدد الشَّرب وقِلتهم فإنهم يسمّون الإثنين مِنشاراً ويكرهونهما، وكأن الثلاثة أتمُّ مجلساً، لأن الإثنين ينهض أحدُهما لبعض شأنه فيبقى الآخر واجماً منفرداً، فتعرض له الفِكر إذ لم يكن لجليسه من يخلفه في مؤانسته، وليس كذلك أمر الثلاثة، وعندي أن الأربعة أحسن لأن أحد الثلاثة إذا اشتغل الإثنان بحديث لم يعرف الثالث ابتداءه وسببه، احتشم، لا محالة، فمقت نفسه كما قال الشاعر:

خِلاَّنِ لي أَمرُهما عجيبُ ... كلاهُما لِخلِهِ حبيبُ

ما لي من نجواُهما نصيبُ ... كأنني بينهما غريبُ

والأربعة متكافئون وهم أركان المجلس وفيهم [قال] الراجز:

إذا عددت صاحبي ونفسي

فنحن والشربُ معاً كالنفس

وفي الأربعة يقول بعض الكتاب:

ثلاثة منحتهم صفائي

كأنهم كواكب الجوزاءِ

فأراد ثلاثة هو رابعهم.

وقال آخر في الثثة:

إخالك تدعونا إذا ما دعوتنا ... دعاء يهود مُسْنتين على نهرِ

فلا خير في الندمان إلاَّ ثلاثة ... سواء كأمثالِ الأثافي من القدرِ

ولمنصور الفقيه إلى بعض إخوانه في ذكر الخمسة:

ثم ادعُ منّا خمسةً ... مُتخيرين ولا تزدْ

فَدُوَيْنَ هذا وحشةٌ ... وفوَيقَهُ سوقُ الأحدْ

وقال آخر في وصفه الندامى من وحدٍ إلى سبعةٍ:

إن المعاقر كأسه متفرداً ... من صحبه نكِسٌ لئيمٌ أرجَسُ

واثنان يشتد النِّدام عليهما ... وثلاثةٌ بهم يطيبُ المجلسُ

ولقد يلَذُّ حديث أربعةٍ لهم ... فيطيبُ مجلسُهم معاً والأنفسُ

والغاية القصوى أراها، خمسة ... في دورهم نفسٌ لمن يتنفسُ

فإذا هم كثروا فصاروا ستةً ... عطشوا لِحبسِ الكاس [إماّ تُحْبَسُ]

وإذا تجمع سبعة في مجلسٍ ... سنحت لهم دون السعود الأنحسُ

فظللتَ في سوق المِراء معسكراً ... وترى حلومهم بجهل تُخلسُ

وكان رجل من جِلَّةِ الكتاب إذا أصاب أهلَ بلدِهِ شدةٌ رفع الحُوَّارَى عن خُوانه وأكل الكُشكار، ورأى أن يساويهم في أكثر ما يقدرون عليه إذ لم يمكن أن يَعُمَّهم، وهذه مكرمة سبق إليها السابق بالخيرات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رض) فإنه عامَ الرَّمادة لم يذق لحماً ولا سمناً حتى أحيا الناس، وإنماكان غذاؤه الخبز والزيت حتى وصف لونَهُ بالأُدمة من كان يصفه بالبياض.

وذمَّ رجل رجلاً فقال: أَمّا فلانٌ فدعواته ولائم وأقداحه محاجم.

<<  <   >  >>