للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وما كان له ذنبٌ ... سوى أنك من نسله

وجلس إلى أبي عبد الرحمن العُتبي رجل ثقيل فلم يحدِّث العتبي حديثاً إلاَّ عارضه بجهلٍ وقلة معرفة، فلما أبرمه أنشده:

أما والذي نادى من الطور عبده وأنزل فرقاناً وأوحى إلى النحل

لقد ولدت حواءُ فيك بليَّةً ... عليَّ أُقاسيها، وثقلاً من الثقلِ

وكان رجلٌ من التجار له ولدٌ ثقيل يتقعَّر في كلامه، فجفاه أبوه استثقالاً له وتبرماً به، فاعتَّل الأبُ عِلَّة شديدة أشفى منها على الموت، فاجتمع إليه ولده وقالوا: ندعو بفلانٍ أخينا، فقال: والله هو يقتلني بكلامه، قالوا: ضد ضَمِنا ألاَّ يتكلم بشيءٍ تكرهه، فأذِن لهم، فلما دخل عليه قال: السلامُ عليك يا أبتِ، قل لا إله إلا الله وإن شئت قلتَ لا إله إلا الله، فقد قال الفرَّاء: كلاهما جائز، والأول أحبّ إليَّ، لأنه أخفهما، والله يا أبتِ ما شغلني عنك غير أبي عليٍّ، فإنه دعاني بالأمس فأهرس وأعدسَ وسبدجَ وسكبَج وزرنج وطبهج وأمصل وأمضر وأفرخ ودجج ولوزج وأفلوذج فصاح العليل: السلاحَ اسلاحَ، غمِّضوني فقد سبق ابنُ الزانية ملِكَ الموت إلى قبض روحي.

وقال أحمد بن الحسين الكوفي: علامة الثقيل أنه يطيل الجلوس ويصدِّع الرؤوس ويوجس النفوس.

وقال أبو العيناء: رب وحشةٍ أمتع من جليس، ووحدةٍ أنفع من أنيس.

وقال الأعمش: النظر إلى الثقيل يمييت القلب ويذهل العقل ويسقم البدن.

وجلس ثقيل إلى بشار فأطال فضرط بشار، فقال الثقيل لبشار: ما هذا؟ قال: وما هو، أرأيت أم سمعت؟ قال: بل سَمِعتُ صوتاً منكراً، قال: فلا تصدق حتى ترى.

وقال ابن وكيع:

وبغيض كتب البغض إليه من علامه

لست أسطيع من المقت له ردَّ سلامه

ما له عاجله الله سريعاً بحمامه

وقال الأعمش: من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثقلاء، وكان إذا حضر مجلسه ثقيل قال:

فما الفيل تحمله ميِّتاً ... بأثقل من بعض جُلاسِنا

وأتى أبو حنيفة الأعمش عائداً في مرضه فقال: لولا أن أُثقل عليك أبا محمد لعُدتك في كل يوم، فقال له الأعمش: والله إنك لتثقل عليَّ وأنت في بيتك فكيف لو جئتني في كل يوم.

وقال بشار:

ربَّما يثقل الجليس وإن كان خفيفاً في كِفَّةِ الميزانِ

ولقد قلت حين وَتَّدَ في البيت ثقيل يُربي على ثهلان

كيف لا تحمل الأمانة أرض ... حملت فوقها أبا سفيان

وقال حبيب بن أوس الطائي:

يا من تبرمت الدنيا بطلعتِهِ ... كما تبرَّمت الأجفان بالرَّمد

يمشي على الأرض مختالاً فأحسبُهُ ... من ثقل طلعته يمشي على كبدي

لو أن في الخلق جزءاً من سماجته ... لم يقدم الموتُ إشفاقاً على أحدِ

وقال أيضاً:

وصاحبٍ لي مللتُ صحبته ... أفقدني الله شخصهُ عجلا

سرقت سكينه وخاتَمَهُ ... ليقطعا بيننا فما فعلا

وقال الصنوبير:

أثقلُ من حُمى إذا ما بَدَت ... ترعَدُ بالنافض والصالبِ

لو مَرَّ من ميل توهَّمتَهُ ... قد مرَّ بين العين والحاجب

ولو مشى في جانب الأرض من ... ثقلٍ إذن مالت إلى جانب

[باب في أخبار الوحدة]

هذا باب لا يختاره إلاَّ من فقد نديماً مساعداً وخليلاً موافقاً وتبرَّم من معاشرة ثقيل ممن قدمنا ذكره في الباب الذي قبل هذا، فلزم الوحدة ضرورةً، إذ كانت أدعى إلى السلامة من مخالطة الإنسان غير شكله ونظيره ممن يُخشى بوائقه، ألا ترى قول أبي نواس، وهو أمير هذا الشأن وفارسه، يقول:

خلوتُ بالرَّاحِ أُناجيها ... آخذ منها وأُعاطيها

نادمتها إذ لم أجد مسعداً ... أرضاه أن يشركني فيها

فهذا مما يدلك على فضل النبيذ، وأنه لم ينفرد بالنبيذ مختاراً، وإنما توجد بشربه ضرورةٌ إذ كانت أدعى إلى السلامة من مخالطة الإنسان غير شكله، ولقوله: إذ لم أجد مسعداً، أو ليس هو القائل:

والراح طيبة وليس تمامُها ... إلا بطيب خلائق الجلاَّسِ

وقال آخر:

لما عدمت رفيقاً ... جعلت زقيّ رفيقي

فتىً إذا جف ريقي ... بريقه بلَّ ريقي

<<  <   >  >>