للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قالوا: اتخذت صديقا ... فقلتُ: زقيّ صديقي

وقال كُشاجم:

إذا بدا لي من أخي ودٍّ جَنَفْ ... وراح في أثواب تيهٍ وصَلَف

خلوتُ وحدي بمناجاة الصُّحف ... فكان لي فيهنَّ لهوٌ وطُرف

وكن لي من كلِّ ما شئت خَلَفْ

وله:

إذا وجدتَ المُدام فاغْنَ بها ... عن كل من في نِدامهِ سُخُفُ

فيها لنا من نِدلمه خَلَفٌ ... وليس فيه من شربها خَلَفُ

فلا يُشاركَ في السرور بها ... مشاركٌ، كلُّ شِركةٍ أَسَفُ

وقال آخر:

لم أجد فيما تصرَّفت على الكأس كريما

فشربت الكأس وحدي ثم أقصيت النديما

وقال آخر:

أيها اللائم الذي لام في الوحدة أقصر فقد لهجتَ بِعَذْلِ

كيف لي بامرئٍ توافق روحي ... روحَهُ عند كل جدٍّ وهزلِ

وقال أبو الهندي:

يدي لا تعاف الكأس أُنساً بشربها ... ولكن تعاف الكأس مع دنسٍ وغد

على مثلها مثلي يكون منادمي ... فإن لم أجد مثلي خلوت بها وحدي

وكان أبو نواس مع استهتاره بالنبيذ ومحبته للأخوان والمنادمة كثيراً ما يستعمل الخلوة ويغيب الغيبة المنقطعة منفرداً.

حكى يوسف بن الداية قال: غاب أبو نواس عن إخوانه فلم يعرفوا له خبراً، ولا وقعوا منه على أثر حتى مضت له سنة فظنوا أنه قد قتل، وبلغ ذلك الرشيد فقال والله لئن صحَّ عندي أنه قتل لأقتلن قاتله ولو كان محمداً، انظروا كلَّ من كان هجا من الناس فاكتبوا اسمه وارفعوه إليَّ، فارتجت بذلك بغداد، فلما كان على رأس الحول إذا نحن به قد وافى فقلنا يا أبا عليّ، غبت هذه الغيبة، فغممتنا، وظننا بأمرك الظنون. قال: كنتُ في موضع أرتضيه وأشتهيه، قلنا: ألم تسمع بافتقادِنا لك وقول الرشيد فيك، ولم يبق أحدٌ من إخوانه إلاَّ عَذَلَهُ وعنَّفه، فأشأ يقول:

إني لفي شُغلٍ عن العاذلين ... بالراح والريحان والياسمين

عند غلامٍ حسنٍ وجههُ ... قلبي حبيسٌ في هواه رهين

قولي إذا صِرتُ على ظهرهِ ... كقولِ قومٍ رحلوا ظاعنين

سبحان من سخَّر هذا لنا ... منه وما كنَّا له مُقرنين

فلما أنشدنا قال: بحياتي من يساعدني منكم ختى أريه إياه فيعذرني أو فيحسدني، فمضى بنا إلى الموضع فإذا بغلام من أحسن الناس وجهاً، فقال له: بحياتي غنِّ، فإذا هو أحسن الناس غناءً، فقال: من يلومني أن أنقطع عن أهل الدنيا وأعتكف على هذا الوجه، وقد جُمع لي فيه كل شيءٍ أشتهيه.

ولو لم تسحبَّ الوحدة على النبيذ إلاَّ لِما امتحن الإنسان به من مثل ما قدمناه من ذكر الجليس الثقيل [لكفى] ، بل تركُ النبيذ بالجملة آنسُ من منادمته، والصبرُ على الوحشة أخفُّ من مؤانسته، فقال أبو نواس:

لنا نديم لا أُسميهِ ... لكنني أكني وأعنيه

إذا انتشى خاصم في الدين إن صادف إنسناً يماريه

ويدَّعي الشرب بلا غايةٍ ... والقدح الواحد يكفيه

يحبس كأسَ القوم في كفِّهِ ... حتى إذا قالوا [له] إيهِ

أفضل ثلثَ الكأسِ في قعرها ... ومجَّ ثلث الكأس من فيه

وقال آخر:

ظهروا فكانوا للعيون مدامعاً ... وخَفَوا فكانوا للنفوس هموما

فلذلك آثرتُ التفرد والنوى ... وغدوت للراحِ المدامِ نديما

الأمير تميم بن المعز:

اِشرب فما لَؤم الزمان وإنما ... أبناؤه مَسخوا المكارم لوما

قومٌ تناهى الجهل فيهم، وانتهى ... بهم، وعوَّج منهم التقويما

[ذكر ما جاء في استهداء النبيذ]

قال مياديس الحكيم: الخمرة لا عارَ على طالبها ولا منقصةَ في استهدائها ولا يجري ذلك في شيءٍ من المآكل، ولا حشمةً في طلب الخمرة ولا حياءَ، فإنك لترى الفقير يطلبها من الغنيِّ والغنيُّ يطلبها من الفقير بلا أنفةٍ لأنها صديقة روحه ومخالطة جسمه، بها ابتهاجه ولذته، ومنها ارتياحه ومسرته.

وكان لإسحق بن إبراهيم الموصلي غلامٌ قد رباه وعلَّمه فصار من أحذق الناس نجز له النبيذ يوماً فكتب إلى إبراهيم بن المهدي:

<<  <   >  >>