للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أما ترى اليوم في سحائبه ... قد ضحك البرقُ في جوانبهِ

وليس في الدنِّ غير قوت فتىً ... يعجز بعضٌ عن قوت صاحبه

فامنن علينا من المدام بما ... نقضي به اليوم حقَّ واجبه

[باب أدب السقاة]

يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ساقي القوم آخرهم شرباً. وأُتي عليه الصلاة والسلام بإناءٍ من لبنٍ فشرب منه، وكان على يمينه غلامٌ حديث السن، وعن يساره أبو بكر " رض " ودفعه إلى الغلام، وقال: الأيمن فالأيمن. ومما دلَّ على مذهب الجاهلية في إدارة الكأس على اليمين قول عمرو بن كلثوم:

صددت الكأس عنَّا أُمَّ عمرٍو ... وكان الكأس مجراها اليمينا

وما شرُّ الثلاثة أُم عمرٍو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا

قالوا: ولا ينبغي أن يكون الساقي إلا مليح الوجه نظيف الثوب طيب الرائحة أديباً ظريفاً إن سكر أحدٌ من الشراب فأشار إليه بالإعفاء من النبيذ، فعل، ولم يُكره أحداً على الشراب، وأدار الكأس عن يمينه، فإن الأدب فيه موافقة سنَّةِ الإسلام لمذهب الجاهلية.

قال عبد الله بن المعتز بالله:

قد حثَّني بالكأس أ، َّل فجره ... ساقٍ علامةُ دينه في خصره

وكأنَّ حُمرة خدِّه من لونها ... وكأن طيب نسيمها من نشرِهِ

حتى إذا صبَّ المزاج تبسمت ... عن ثغرها فحسبتها من ثغِهِ

وقال أبو نواس:

لا نَستَخِفُّ بساقينا لغِرَّتِهِ ... ولا يَرُدُّ عليه حكمه أحد

وقال أبو نواس أيضاً:

عوجا بنا نصطبح معتَّقة ... من كفِّ ظبي يسقيكها، فَطِنِ

يخبر عن طيبه مُجالسُه ... مكتحلُ المقلتين بالفِتَنِ

قال له الله كن على قدرٍ ... فكان بين الهزال والسِّمَنِ

حتى إذا ما الجمال تمَّ له ... والظرف، قالا له كذا فكُن

ما تنظر العين منه ناحية ... إلاَّ أقامت به على حَسَنِ

وقال ابن المعتز:

يطوف بالراح بيننا رشُ ... مُحكم في القوب والمُقّلِ

أفرغَ نوراً في قشر لؤلؤةٍ ... فحِلَّ عن قيمةٍ وعن مثل

يكاد لحظ العيون حين بدا ... يسفِك من خدِّه دمَ الخَجَلِ

وحضر قوم من أهل الأدب عند عليٍّ بن محمد العلوي فأبرز غلاماً له نفيساً في قراطقه فجعل يسقيهم ويستحثهم فأخذت عيونهم منه مأخذها، فلما رأى ذلك مولاه أمره بالانصراف وتولى هو سقيهم وخدمتهم وأنشأ يقول:

كأنما يسعى، لوجدي به، ... من بينهم في ثِني أحشائي

أغار من وقفته كُلَّما ... قال لحاسي الكأس مولائي

حتى لقد أمسوا، وهم إخوتي ... من شدةِ الغيرة أعدائي

واصطبح أبو تمام يوماً عند الحسن بن وهب، وكان مع أبي تمام غلامٌ له رومي يحبه حباً شديداً، وعلى رأس الحسن غلام آخر كأنه الشمس، فطفق الحسن يلحُّ بالنظر إلى الرومي، فلما أدمَن ذلك؛ دعا أبو تمام بدواة وقرطاس وكتب فيها:

سبحان من سبّحته كلُّ جارحةٍ ... ما فيك من طمح العينينِ والنظر

إن أنت لم تدع السير الحثيث إلى ... جآذر الرُّوم أعنقنا إلى الخزر

فاستحيا الحسن بن وهب، ووهب له الغلام.

وقال أبو نواس:

غادِ المدام بكفِّ ظبيٍ أهيفِ ... يسقيكها صرفاً وغير مُصَرَّفِ

وشت العُقار بوجنتيه فأبدتا ... للناس وردَ حديقةٍ لم تُقطف

فالق الحرامَ، إذ لقيت، بمثله ... وامزج سلافة ريقه بالقرقف

وقال أيضاً:

لا تبكِ ربعاً أقوى ولا طللا ... ولا تصف ناقة ولا جملا

وعاطني قهوةً إذا مُزجت ... أرتك منها في نفسها شُغُلا

بكف ساقٍ يُزهى على غصنِ البانِ إذا ما انثنى وما اعتدلا

إذا سقاني العُقار جمَّشهُ ... طرفي فيحمر خدُّه خجلا

وقال أيضاً:

طاف في قرطقٍ وقد عقد الزنار من فوق خصره تسعينا

بعقار تنفي الهموم وتستخرج شوقاً من الفؤاد دفينا

طاف سعياً بها فخلت طلوع الشمس ليلاً والبدرمما يلينا

<<  <   >  >>