للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يقال: إشرب من النبيذ ما لم يشرب عقلك. وقيل للرِّياشي: ما حدُّ السكر؟ قال: أن تعزُبَ عنه الهموم ويظهر سرُّه المكتوم، والناس في السكر على ضروب؛ منهم من تراه يشرب وهو يتحدث لا تنكر منه شيئاً حتى يغلب عليه السكر ضربةً واحدةً، ومنهم من تراه يأخذ منه النبيذ الأول فالأول. وتراه كيف تثقل حركته، ويغلظ حسُّه ويُمتحق عقله حتى يطمس عليه السكر، ويطبق عليه النوم، ومنهم من يأخذه السُّكر بالعبث لا يعدوه، ومنهم من لا يرضى ما دون السيف، ولا بأن لا يضرب أُمه ويطلق امرأته، ومنهم من يعتريه البكاءُ والضحك، ومنهم من يعتريه الملق والتفدية والتسليم على المجالس والتقبيل لرؤوس الناس، ومنهم من يثبُ ويرقص ويعرض له ذلك لضربين، أحدهما من فضل الأشر والآخر من تحريك المرار، ثم اختلافهم على قدر اختلاف طبائعهم وبلدانهم وأزمانهم وأسنانهم وأخلاقهم، ومن الناس من لا يسكر البتة، كان منهم محمد بن الجهم. وقالوا: العقل كالمرآة يرى صاحبه فيه مساوئه، فلا يزال في صحوه مهموماً حتى يشرب النبيذ فيصدأ عقله بمقدار ما يشرب فإذا كثر، غشيهُ الصدأ كله، فلم تظهر فيه صورة تلك المساوئ له، ففرح ومرح، والجهل كالمرآة الصدِّئة أبدا، فلا يرى صاحبه إلاَّ فرحاً، شرب أم لم يشرب.

وسأل قيصر ملك الروم قُسَّ بن ساعدة الإيادي عن السُّكر قال: زعموا أن القلب يُصعد سورة الشراب إلى الرأس بالقوة التي جعلت فيه، فإذا احتوت على الدِّماغ حجبت العقل عن منافذه فاحتجب البصرُ بغير عمىً ولا نوم، والسمعُ بغير صم واللسان بغير خرس، فلا يزال بذلك حتى تفكّه الطبيعة من إسار السكر قال: فتقول، إن السكر يذهب بشيءٍ من عقله، قال: ما أنكر ذلك لأنه يدخل على العقل داخل ليس كالنوم الذي جعل فيه صلاح البدن، فيقهره ويأخذ منه فيوهنه، وكل مأخوذ منه مستفيض، وكل مقهورٍ ضعيف، قال: فتشربه أنت؟ قا: نعم، ولا أشرب منه ما يغير عقلي. قال رجل: رأيت يونس بن عُبيد فضحك، فقلت: ما يضحكك؟ قال: مرَّ بنا سكران فسلَّم علينا، فلم نرد عليه، فقعد يبول في وسطنا فقلنا: ويحك، ما تصنع؟ قال: ما ظننت أن هاهنا أحداً.

لقي سكران أبا حنيفة، فقال له: يا أبا حنيفة لقد أحسنت إلينا في تحليلك النبيذ، فقال: ما أحسنتُ حين يشربه مثلك، وقال الشاعر:

رهبان دير سقوني الخمر صافيةً ... مثل الطواويس في دور السلاطين

مشوا إلى الراحِ مشيَ الرُّخ وانصرفوا ... والرَّاح تمشي بهم مشيَ الفرازين

غدوا إليها كأمثال السهام مضت ... عن القِسيِّ وراحوا كالعراجين

وكان شربهم في بدءِ مجلسهم ... شرب الملوك وباتوا كالمساكين

وقال ابن شُبرُمة: مررت برجل سكران وقد ألقى عنه ثيابه وهو يبكي بكاءَ شديداً، ويقول: وا أسفي عليهم، ليت الأرض أخرجتني إليهم، فقلت: من هؤلاء الذين تتقلب عليهم بهذا الغيظ، قال: إخوة يوسف، ألقوه في البئر حتى أكله الذئب، قلت له: إن الله خلصه من الجُبِّ، ولم يأكله الذئب، ولا الأسد، فقال: بشرك الله خير وأحسن جزاءك، وأغمد خنجره ولبس ثيابه وانصرف.

وقال بعض الأُدباء: كنت مستشرفاً على سطح لي بالبصرة، فجاء سكران، ةى فوقف في ظل الجدار، والليل مقمر، فأوهمه السُّكر أن ضوء القمر نهرٌ، فنادى: يا ملاَّح، قرِّب السُّمارية، قرِّب ويحك السُّمارية، مراراً، فلما لم يجبه أحد، وطال ذلك عليه، نزع ثيابه ورمى بنفسه على الأرض كما يرمي السابح نفسه في الماء، فتهشَّم وجهه وتكسر أنفه، وجعل يضرب بيديه ورجليه كأنه يسبح.

ونظر رجل إلى صديق له سكران، وقد حمل في كساءٍ على رأس حمال، وأخرج رأسه من الكساء، فقال له: فلان ما هذا؟ قال: بقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة.

<<  <   >  >>