للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال سهل بن هرون: ثلاثة من المجانين: الغضبان والسكران والغيران، فقال رجل: والمنعِظ، فضحك وقال:

وما شر الثلاثة أُمَّ عمرٍو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا

وقال المنخل اليشكري:

ولقد شربت من المدامة بالصغير ولالكبيرِ

ولقد شربت الخمر بالخيل الإناث وبالذكور

فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسديرِ

وإذا صحوت فإنني ... رب الشُّوَيْهة والبعير

يا رب يومٍ، للمنخل قد لَهَى فيه، قصيرِ

وفي السُّكر يقول الآخر:

ولقد شربت الخمر حتى خلتُني ... لما خرجتُ أجرُّ فضل المئزرِ

قابوس أو عمرو بن هندٍ قاعداً بحاليه ما دون دارةِ قيصرِ وقال الفلاسفة: ينبغي لشارب النبيذ ألاَّ يتجاوز فيه مقدار طاقته، وأن يتفقد نفسه تفقداً شديداً فمتى أنكر رأيه وفكره وحركات بدنه وقوتِّه أمسك عن شربه ولم يمعن فيه حتى يختلط لأن السكر إنما يكون مع بخاراتٍ غليظة نِيَّة غير نضيجة ترتفع إلى الدماغ فتستره كما يستر السحاب الشمس فيحول ذلك البخار بين العقل وبين ما يشرقُ عليه من قوةِ النفس والطبيعة فتسترخي لذلك الأعضاء والأعصاب كلها، وتضعف الحواس ويفسد الفكر ويغشى النُّعاس.

وروي الواقدي أن عبد الله بن عُمر قال: خرجت أنا وأخي عبد الرحمن وعقبة بن الحارث غُزاة، ونحن نريد الإسكندرية، فلّما قدِمنا مصر، شرب أخي وعقبة فسكرا فلما أصبحنا انطلقنا إلى عمرو بن العاص وهو يليها لعُمر فقالا له: طهِّرنا، فإنا قد سكرنا من شراب شربناه؛ فجلدهما الحدَّ في صحن داره، وبلغ ذلك عمر فكتب إلى عمرو بن العاص: أن أبعث إليَّ عبد الرحمن بن عوف، وقال: يا أمير المؤمنين قد أُقيم عليه الحدُّ، وما لك أن نقيمه عليه ثانية، فلم يلتفت عمر إلى قوله وجعل عبد الرحمن يصيح: إني مريض، وأنت قاتلي، فضربه الحد ثانية، فما زال مريضاً حتى مات، وقال له في مرضه هذا: يا أبتِ، قتلتني، فقال له: يا بنيَّ، إذا لقيت ربَّك فقال لك: فيمَ قتلك أبوك، فقل: أيْ ربِّ فيك.

قال بعض الحكماء: لا فضيلة في السكر سوى فقدان الهموم وذلك عندنا لا يفي بفقدان العقول. وقالت الفلاسفة: في السكر الشديد أنواع من العلل أقلُّها أنه يورث الارتعاش في اليدين حتى لا يُمسك بهما شيئاً، وقد أكثروا ذلك في أشعارهم، وربَّما أورث السكتة والفالج واللقوة، وقد حمد قوم السكر من الشراب، وقالوا: إنما اللذة كلها فيه لأنه يستطيب من السماع ما لم يكن يستطيبه صاحياً، ويستحسن حديث ندمائه ويخفون على قلبه ويهون عليه ما أنفقه وإن كان جليلاً وتسخو نفسه عنه وإن كان بخيلاً وتنبسط آماله وتذهب غمومه وهمومه وتكثر أفراحه وسروره، وذلك كله قبل الاختلاط وعدم الحِسِّ.

وكان السُّرادِقُ الدِّهلي مولعاً بالشراب فمرَّ بمجلسٍ من مجلس الأزد وهو سكران ورِجلاه تضطربان من السكر فتغامزوا عليه، وقال شاب منهم: سكران، سكران، فأقبل عليه السُّرادِق وقال:

معاذ إلهي، لست سكرانَ يا فتى ... وما اختلفت رجلاي إلا من الكِبر

ومن يك نهباً لليالي ومُرها ... تدعه قليل القلب والسمع والبصر

وكان الأُقيشر الأسدي مولعاً بالشراب، فأخذه الأهوان بالكوفة وقالوا: سكران شارب خمرٍ، فأنشأ يقول:

يقولون لي أن قد شربت مدامة ... فقلت لهم: لا بل أكلتُ سَفَرجلا

وسأل بعض الملوك حكيماً عن السكر وما يُحدثه، فقال: أيها الملك، مسكن العقل في الدماغ، وهو للإنسان كالمرآة يريه محاسنه ومساويه، فإذا شرب الرجل الخمر صعد من بخارها إلى الدماغ ما يحول بينه وبين عقله كما تحول الغمامة بين العيون وبين الشمس المضيئة فيكون مقدار ما يغشى مرآة العقل من الصدأ بقدر إكثاره من الشراب وإقلاله منه، فإذا نام على ذلك ذهب الصدأ شيئاً فشيئاً حتى يصحو، قال: فهل يعود العقل بكمالِهِ، قال: وما أنكر نقصانه، لأنَّا ما رأينا شيئاً ذهب جملةً فعاد جملةً.

ولم يصف أحدٌ السكران كما وصف الأخطل فإنه قال:

صريع مدام يرفع الشرب رأسه ... ليُحنى وقد ماتت عظامٌ ومفصلُ

تهاديه أحياناً، وحيناً تجرُّهُ ... وما كان إلا بالحشاشةِ يعقِلُ

إذا رفعوا عظماً، تحامل صدرُهُ ... وآخر مما نال منها مُخبَّلُ

<<  <   >  >>