للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال الهيثم: فما زلتُ من غزوان وأُمّ الوليد في عجبٍ وهو جاري جارُ الجنب، فما أعرف له عبداً ولاأمة، فلمَّا خرج أخذت بيده فقلت: ياأبا المثنَّى، من غزوان وأم الوليد؟ فواللهِ ما عرفتها لك قبل ساعتيّ فقال: استر عليَّ، هما سنَّوران في بيتي! قال الهيثم: قال لي: اشعب، ياأبا عبد الرحمان! لقد أحرزت في يدي اثني عشر ألف دينار. قلتُ: فأتقِ اللهَ ولا تسأل الناس! فقال: ويحك إني قد أحكمت المسألة إحكاماً، أكره أن أُضيعها فقد حذقتها.

وقال: أولُ من ضرب الدراهم المدوَّرة عبد الله بن الزبير، وكتب على أحد الوجهين: " محمدٌ رسول الله "، وعلى الوجه الآخر: " أمر اللهُ بالعدل والوفاء ". فلمَّا قتله الحجَّاج أمر بدراهمه فقطعت، وكتب إلى الأمصار أن اضربوا هذه الدراهم التي عليها " هو هو اللهُ أحد ". وكان على بيت المال رجلٌ من طيء يقال له سُميرٌ، فأمره وأعطى الناس، فجعلوا يقولون: دراهمُ سُميريّةٌ! فلذلك سُميت.

وقيل للهيثم: لم كره الناس البناء في شوال؟ فقال: مات فيه في الطاعون الجارف بضعة عشر ألف عروسٍ، فتطيَّر الناسُ منه.

توفيَ الهيثم بن عدي بفمٍ الصلح غُرة المحرَّم سنة سبع ومائتين.

٨٥ - ومن أخبار ابن كناسةً

هو أبو يحيى محمد بن عبد الأعلى بن كناسة الأسدي من بني نصر بن قُعين، من شعراء الكوفة وعلمائهم الرواة للحديث والأخبار والشعر، وقيل: هو أبو يحيى محمَّد بن عبد الله بن كُناسة بن عبد الأعلى بن عبد الله ابن خليفة بن زهير بن نضلة بن أنيف بن مازن بن كعب بن رويبة بن أسامة بن نصر بن قعين، كذا هو في هذا النسب والصحيح أن كناسة هو عبد اللهُ أبو محمد كُناسة. - ويقال إنَّ أُمَّه رأت وهي حامل به كأنها وجدت في كناسة سواراً، ويقال: كان آخر أولادها كأنه كناسة بطنها.

مات له ولدٌ اسمه يحيى، فقال فيه " من الطويل ":

تفاءلتُ لو يغني التفاؤلُ باسمهِ ... وما خلت فألاً قبل ذاك يفيلُ

فسميَّته يحيى ليحيى ولم يكن ... إلى قدر الرحمان فيه سبيلُ

قال محمد بن سعد: ابنُ كُناسة الأسدي من أنفسهم، وهو ابن أخت إبراهيم بن أدهم الزاهد. روى عن الأعمش وهشام بن عروة، وكان عالماً بالعربية وأيامِ الناس والشعر. - قال يحيى بن معين: هو ثقةٌ. - وقال ابن المديني: هو ثقة صدوق.

مرّ ابنُ كناسة وبيده بطنُ شاةٍ يحمله، فقال له رجلٌ: ياأبا يحيى، إليَّ أحمل عنك! فقال: لا " من الرجز ":

ما نقصَ الكاملَ من كمالهِ ... ما جَرَّ من نفعٍ إلى عيالهِ

قال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ: كنتُ عند ابن كناسة يوماً في شهر رمضان، فاشتد الحرُ والعطش، فشكوت إليه ذلك، فأنشد " من البسيط ":

بين العشاء وبين العصر منزلةٌ ... يكادُ يذبحُ فيها الصائمَ العطشُ

قال يحيى بن معين: سمعتُ محمّد بن كناسة ينشد لنفسه " من المنسرح ":

فيَّ انقباضٌ وحشمةٌ فإذا ... جالستُ أهلَ الوفاء والكرمِ

أرسلتُ نفسي على سجيتها ... وقلت: ماشئت غير مُحتشمِ

قال: قدم إبراهيم بن أدهم الكوفة، فبعثتني أمي إليه بهديَّة، فقبلها ولمَّا مات رثاه محمد فقال " من الطويل ":

رأيتك لايكفيك مادونه الغنى ... وقد كان يكفي دون ذاك ابن أدهْما

تخلَّى من الدنيا وكان بمنظرٍ ... ومسمتعٍ منها أنيقٍ وأنعما

وكان يرى الدنيا صغيراً كبيرها ... وكان لحق الله فيها معظما

وللحلم سلطانٌ على الجهل عنده ... فما يستطيع الجهلُ أن يترمرما

وأكثر ما يُلقى على القوم صامتا ... فإن قال بذَّ القائلين وأحكما

يُرى مستكيناً خاشعاً متواضعاً ... وليثاً إذا لاقى الكريهةَ ضيغما

وقال الموصليُّ: أنشد ابن كناسة " من المنسرح ":

أبعطت من يومك الفرار فما ... جاوزت حتى انتهى بك القدرُ

أبعطت بمعنى أبعدت، أراد: أسرفت في التباعد،

لو كان ينجي من الردى حذرٌ ... نجَّاك ممَّا أصابك الحذَرُ

يرحمك اللهُ من أخي ثقةٍ ... لم يك في صفو ودهِ كدرُ

فهكذا يفسدُ الزمانُ ويفنى ... العلمُ منهُ ويدرسُ الأثرُ

<<  <   >  >>