للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الممتدة فِيهَا المبثوثة فِيهَا مَا يبهر النَّاظر فَمِنْهَا غِلَاظ ممتدة فِي الطول وَالْعرض وَمِنْهَا دقاق تتخلل تِلْكَ الْغِلَاظ منسوجة نسجا دَقِيقًا معجبا لَو كَانَ مِمَّا يتَوَلَّى الْبشر صنع مثله بِأَيْدِيهِم لما فرغوا من ورقة فِي عَام كَامِل ولاحتاجوا فِيهِ الى آلَات وحركات وعلاج تعجز قدرتهم عَن تَحْصِيله فَبَثَّ الخلاق الْعَلِيم فِي أَيَّام قَلَائِل من ذَلِك مَا يمْلَأ الارض سهلها وجبالها بِلَا آلَات وَلَا معِين وَلَا معالجة ان هِيَ إِلَّا ارادته النافذة فِي كل شَيْء وَقدرته الَّتِي لَا يمْتَنع مِنْهَا شَيْء إِنَّمَا امْرَهْ إِذا اراد شَيْئا ان يَقُول لَهُ كن فَيكون فَتَأمل الْحِكْمَة فِي تِلْكَ الْعُرُوق المتخللة الورقة باسرها لتسقيها وتوصل اليها الْمَادَّة فتحفظ عَلَيْهَا حَيَاتهَا ونضارتها بِمَنْزِلَة الْعُرُوق المبثوثة فِي الابدان الَّتِي توصل الْغذَاء الى كل جُزْء مِنْهُ وَتَأمل مَا فِي الْعُرُوق الْغِلَاظ من إِِمْسَاكهَا الْوَرق بصلابتها ومتانتها لِئَلَّا تتمزق وتضمحل فَهِيَ بِمَنْزِلَة الاعصاب لبدن الْحَيَوَان فتراها قد أحكمت صنعتها ومدت الْعُرُوق فِي طولهَا وعرضها لتتماسك فَلَا يعرض لَهَا التمزق

فصل ثمَّ تَأمل حِكْمَة اللَّطِيف الْخَبِير فِي كَونهَا جعلت زِينَة للشجر وسترا

ولباسا للمثرة ووقاية لَهَا من الافات الَّتِي تمنع كمالها وَلِهَذَا إِذا جردت الشَّجَرَة عَن وَرقهَا فَسدتْ الثَّمَرَة وَلم ينْتَفع بهَا وَانْظُر كَيفَ جعلت وقاية لمنبت الثَّمَرَة الضعيفة من اليبس فَإِذا ذهبت الثَّمَرَة بَقِي الْوَرق وقاية لتِلْك الافنان الضعيفة من الْحر حَتَّى إِذا طفئت تِلْكَ الْجَمْرَة وَلم يضر الافنان عراها من وَرقهَا وسلبها إِيَّاه لتكتسى لباسا جَدِيدا احسن مِنْهُ فتباركا لله رب الْعَالمين الَّذِي يعلم مساقط تِلْكَ الاوراق ومنابتها فَلَا تخرج مِنْهَا ورقة الا باذنه وَلَا تسْقط الا بِعِلْمِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَو شَاهدهَا العبادعلى كثرتها وتنوعها وَهِي تسبح بِحَمْد رَبهَا مَعَ الثِّمَار والافنان والاشجار لشاهدوا من جمَالهَا امرا آخر ولراوا خلقتها بِعَين اخرى ولعلموا انها لشأن عَظِيم خلقت وَأَنَّهَا لم تخلق سدى قَالَ تَعَالَى {والنجم وَالشَّجر يسجدان} فالنجم مَا لَيْسَ لَهُ سَاق من النَّبَات وَالشَّجر مَاله سَاق وَكلهَا سَاجِدَة لله مسبحة بِحَمْدِهِ {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} ولعلك ان تكون مِمَّن غلظ حجابه فَذهب الى ان التَّسْبِيح دلالتها على صانعها فَقَط فَاعْلَم ان هَذَا القَوْل يظْهر بُطْلَانه من اكثر من ثَلَاثِينَ وَجها قد ذكرنَا اكثرها فِي مَوضِع آخر وَفِي أَي لُغَة تسمى الدّلَالَة على الصَّانِع تسبيحا وسجودا وَصَلَاة وتاويبا وهبوطا من خَشيته كَمَا ذكر تَعَالَى ذَلِك فِي كِتَابه فَتَارَة يخبر عَنْهَا بالتسبيح وَتارَة بِالسُّجُود وَتارَة بِالصَّلَاةِ كَقَوْلِه تَعَالَى {وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه} افترى يقبل عقلك ان يكون معنى الاية قد علم الله دلَالَته عَلَيْهِ وسمى تِلْكَ الدّلَالَة صَلَاة وتسبيحا وَفرق بَينهمَا وَعطف احدهما

<<  <  ج: ص:  >  >>