للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ان اعطى من هَذَا الضَّرْب من الْجَوَارِح والاعضاء اثْنَيْنِ اثْنَي وَكَذَلِكَ اعطى شفتين لانه لَا تكمل مصْلحَته إِلَّا بهما وَفِيهِمَا ضروب عديدة من الْمَنَافِع وَمن الْكَلَام والذوق وغطاء الْفَم وَالْجمال والزينة والقبلة وَغير ذَلِك وَأما الاعضاء الثَّلَاثَة فَهِيَ جَوَانِب انفه وحيطانه وَقد ذكرنَا حِكْمَة ذَلِك فِيمَا تقدم واما الاعضاء الرّبَاعِيّة فالكعاب الاربعة الَّتِي هِيَ مجمع الْقَدَمَيْنِ والممسكة لَهما وَبِهِمَا قُوَّة الْقَدَمَيْنِ وحركتهما وَفِيهِمَا مَنَافِع السَّاقَيْن وَكَذَلِكَ اجفان الْعَينَيْنِ فِيهَا من الحكم وَالْمَنَافِع انها غطاء للعينين ووقاية لَهما وجمال وزينة وَغير ذَلِك من الحكم فاقتضت الْحِكْمَة الْبَالِغَة ان جعلت الاعضاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ من الْعدَد والشكل والهيئة فَلَو زَادَت اَوْ نقصت لَكَانَ نقصا فِي الْخلقَة وَلِهَذَا يُوجد فِي النَّوْع الانساني من زَائِد فِي الْخلقَة وناقص مِنْهَا مَا يدل على حِكْمَة الرب تَعَالَى وَأَنه لَو شَاءَ لجعل خلقه كلهم هَكَذَا وليعلم الْكَامِل الْخلقَة تَمام النِّعْمَة عَلَيْهِ وانه خلق خلقا سويا معتدلا لم يزدْ فِي خلقه مَالا يحْتَاج اليه وَلم ينقص مِنْهُ مَا يحْتَاج اليه كَمَا يرَاهُ فِي غَيره فَهُوَ اجدر ان لم يزْدَاد شكرا وحمدا لرَبه وَيعلم ان ذَلِك لَيْسَ من صنع الطبيعة وَإِنَّمَا ذَلِك صنع الله الَّذِي اتقن كل شَيْء خلقه وانه يخلق مَا يَشَاء

فصل من ايْنَ للطبيعة هَذَا الِاخْتِلَاف وَالْفرق الْحَاصِل فِي النَّوْع الانسان

بَين صورهم فَقل ان يرى اثْنَان متشابهان من كل وَجه وَذَلِكَ من اندر مَا فِي الْعَالم بِخِلَاف اصناف الْحَيَوَان كالنعم والوحوش وَالطير وَسَائِر الدَّوَابّ فَإنَّك ترى السرب من الظباء والثلة من الْغنم والذود من الابل والصوار من الْبَقر تتشابه حَتَّى لَا يفرق بَين وَاحِد مِنْهُمَا وَبَين الاخر إِلَّا بعد طول تَأمل اَوْ بعلامة ظَاهِرَة وَالنَّاس مُخْتَلفَة صورهم وخلقتهم فَلَا يكَاد اثْنَان مِنْهُم يَجْتَمِعَانِ فِي صفة وَاحِدَة وخلقة وَاحِدَة بل وَلَا صَوت وَاحِد وحنجرة وَاحِدَة وَالْحكمَة الْبَالِغَة فِي ذَلِك ان النَّاس يَحْتَاجُونَ الى ان يتعارفوا بأعينهم وحلاهم لما يجرى بَينهم من الْمُعَامَلَات فلولا الْفرق وَالِاخْتِلَاف فِي الصُّور لفسدت احوالهم وتشت نظامهم وَلم يعرف الشَّاهِد من الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَلَا الْمَدِين من رب الدّين وَلَا البَائِع من المُشْتَرِي وَلَا كَانَ الرجل يعرف عرسه من غَيرهَا للاختلاط وَلَا هِيَ تعرف بَعْلهَا من غَيره وَفِي ذَلِك اعظم الْفساد والخلل فَمن الَّذِي ميز بَين حلاهم وصورهم واصواتهم وَفرق بَينهَا بفروق لَا تنالها الْعبارَة وَلَا يُدْرِكهَا الْوَصْف فسل الْمُعَطل اهذا فعل الطبيعة وَهل فِي الطبيعة اقْتِضَاء هَذَا الِاخْتِلَاف والافتراق فِي النَّوْع وَأَيْنَ قَول الطبائعيين ان فعلهَا متشابه لانها وَاحِدَة فِي نَفسهَا لَا تفعل بِإِرَادَة وَلَا مَشِيئَة فَلَا يُمكن اخْتِلَاف افعالها فَكيف يجمع الْمُعَطل بَين هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهَا لَا تعمى الابصار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور وَرُبمَا وَقع فِي النَّوْع الانساني تشابه بَين اثْنَيْنِ لَا يكَاد يُمَيّز بَينهمَا فتعظم عَلَيْهِم الْمُؤْنَة فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>