للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل وَتَحْقِيق هَذَا الْمقَام بالْكلَام فِي مقامين أَحدهمَا فِي الْأَعْمَال خُصُوصا

ومراتبها فِي الْحسن والقبح وَالثَّانِي فِي الموجودات عُمُوما ومراتبها فِي الْخَيْر وَالشَّر أما الْمقَام الأول فالأعمال إِمَّا أَن تشْتَمل على مصلحَة خَالِصَة أَو راجحة واما أَن تشْتَمل على مفْسدَة خَالِصَة أَو راجحة واما أَن تستوي مصلحتها ومفسدتها فَهَذِهِ أَقسَام خَمْسَة مِنْهَا أَرْبَعَة تأت بهَا الشَّرَائِع فتأتي بِمَا مصْلحَته خَالِصَة أَو راجحة آمرة بِهِ مقتضية لَهُ وَمَا مفسدته خَالِصَة أَو راجحة فَحكمهَا فِيهِ النَّهْي عَنهُ وَطلب إعدامه فتأتي بتحصيل الْمصلحَة الْخَالِصَة ولراجحه أَو تكميلهما بِحَسب الْإِمْكَان وتعطيل الْمفْسدَة الْخَالِصَة أَو الراجحة أَو تقليلهما بِحَسب الْإِمْكَان فمدار الشَّرَائِع والديانات على هَذِه الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة وتنازع النَّاس هُنَا فِي مسئلتين

المسئلة الأولى فِي وجود الْمصلحَة الْخَالِصَة والمفسدة الْخَالِصَة فَمنهمْ من مَنعه وَقَالَ لَا وجود لَهُ قَالَ لِأَن الْمصلحَة هِيَ النَّعيم واللذة وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ والمفسدة هِيَ الْعَذَاب والألم وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَالُوا والمأمور بِهِ لَا بُد أَن يقْتَرن بِهِ مَا يحْتَاج مَعَه إِلَى الصَّبْر على نوع من الْأَلَم وَإِن كَانَ فِيهِ لَذَّة سرُور وَفَرح فَلَا بُد من وُقُوع أَذَى لَكِن لما كَانَ هَذَا مغمورا بِالْمَصْلَحَةِ لم يلْتَفت إِلَيْهِ وَلم تعطل الْمصلحَة لأَجله فَترك الْخَيْر الْكثير الْغَالِب لآجل الشَّرّ الْقَلِيل المغلوب شَرّ كثير قَالُوا وَكَذَلِكَ الشَّرّ الْمنْهِي عَنهُ إِنَّمَا يَفْعَله الْإِنْسَان لإن لَهُ فِيهِ غَرضا ووطرا مَا وَهَذِه مصلحَة عاجلة لَهُ فَإِذا نهى عَنهُ وَتَركه فَأَتَت عَلَيْهِ مصْلحَته ولذته العاجلة وَإِن كَانَت مفسدته أعظم من مصْلحَته بل مصْلحَته مغمورة جدا فِي جنب مفسدته كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْخمر وَالْميسر {قل فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} فالربا وَالظُّلم وَالْفَوَاحِش وَالسحر وَشرب الْخمر وَإِن كَانَت شرورا ومفاسد فَفِيهَا مَنْفَعَة وَلَذَّة لفاعلها وَلذَلِك يؤثرها ويختارها وَإِلَّا فَلَو تجردت مفسدتها من كل وَجه لما أَثَرهَا الْعَاقِل وَلَا فعلهَا أصلا وَلما كَانَت خَاصَّة الْعقل النّظر إِلَى العواقب والغايات كَانَ أَعقل النَّاس أتركهم لما ترجحت مفسدته فِي الْعَاقِبَة وَإِن كَانَت فِيهِ لَذَّة مَا وَمَنْفَعَة يسيرَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مضرته

ونازعهم آخَرُونَ وَقَالُوا الْقِسْمَة تَقْتَضِي إِمْكَان هذَيْن الْقسمَيْنِ والوجود يدل على وقوعهما فَإِن معرفَة الله ومحبته وَالْإِيمَان بِهِ خير مَحْض من كل وَجه لَا مفْسدَة فِيهَا بِوَجْه مَا قَالُوا وَمَعْلُوم أَن الْجنَّة خير مَحْض لَا شَرّ فِيهَا أصلا وَإِن النَّار شَرّ مَحْض لَا خير فِيهِ أصلا وَإِذا كَانَ هَذَانِ القسمان موجودان فِي الْآخِرَة فَمَا المخل بوجودهما فِي الدُّنْيَا قَالُوا أَيْضا فالمخلوقات كلهَا مِنْهَا مَا هُوَ خير مَحْض لَا شَرّ فِيهِ أصلا كالأنبياء وَالْمَلَائِكَة

وَمِنْهَا هُوَ شَرّ مَحْض لَا خير فِيهِ أصلا كإبليس وَالشَّيَاطِين وَمِنْهَا مَا هُوَ خير وَشر وَأَحَدهمَا غَالب على الآخر فَمن النَّاس من يغلب خَيره على شَره وَمِنْهُم من

<<  <  ج: ص:  >  >>