للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ فِي مُقَابَلَتِهِ عَلَى أَنَّ بُلُوغَ الْغَرَضِ يَزِيدُهُ أَلَمًا فَتُرْبِي مَرَارَةُ الْفِرَاقِ عَلَى لَذَّةِ الْوِصَالِ كَمَا قَالَ قَائِلِهُمْ

كُلُّ شَيْءٍ رَبَحْتُهُ فِي التَّلاقِي ... وَالتَّدَانِي خَسِرْتُهُ فِي الْفِرَاقِ وَإِنْ مَنَعَهُ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَيْلِ غَرَضٍ فَالامْتِنَاعُ عَذَابٌ شَدِيدٌ فَهُوَ مُعَذَّبٌ فِي كُلِّ حَالٍ

فَصْلٌ وَأَمَّا ضَرَرُ الْعِشْقِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُورِثُ الْهَمَّ الدَّائِمَ وَالْفِكْرَ الَّلازِمَ

وَالْوِسْوَاسَ وَالأَرَقَ وَقِلَّةَ الْمَطْعَمِ وَكَثْرَةَ السَّهَرِ ثُمَّ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْجَوَارِحِ فَتَنْشَأُ الصُّفْرَةُ فِي الْبَدَنِ وَالرَّعْدَةُ فِي الأَطْرَافِ وَاللَّجْلَجَةُ فِي اللِّسَانِ وَالنُّحُولُ فِي الْجَسَدِ فَالرَّأْيُ عَاطِلٌ وَالْقَلْبُ غَائِبٌ عَنْ تَدْبِيرِ مَصْلَحَتِهِ وَالدُّمُوعُ هَوَاطِلٌ وَالْحَسَرَاتُ تَتَابُعٌ والزفرت تَتَوَالَى وَالأَنْفَاسُ لَا تَمْتَدُّ وَالأَحْشَاءُ تَضْطَرِمُ فَإِذَا غُشِيَ عَلَى الْقَلْبِ إِغْشَاءً تَامًّا أُخْرِجَتْ إِلَى الْجُنُونِ وَمَا أَقْرَبُهُ حِينَئِذٍ مِنَ التَّلَفِ هَذَا وَكَمْ يَجْنِي مِنْ جِنَايَةٍ عَلَى الْعِرْضِ وَوَهْنِ الْجَاهِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَرُبَّمَا أَوْقَعَ فِي عُقُوبَاتِ الْبَدَنِ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ وَقَدْ أَنْشَدُوا

وَمَا عَاقِلٌ فِي النَّاسِ يُحْمَدُ أَمْرُهُ ... وَيُذْكَرُ إِلا وَهُوَ فِي الْحُبِّ أَحْمَقُ

وَمَا مِنْ فَتًى ذَاقَ بُؤْسَ مَعِيشَةٍ ... مِنَ النَّاسِ إِلا ذَاقَهَا حِينَ يَعْشَقُ

قَالَ جَالِينُوسُ الْعِشْقُ مِنْ فَعْلِ النَّفْسِ وَهِيَ كَامِنَةٌ فِي الدِّمَاغِ وَالْقَلْبِ وَالْكَبِدِ وَفِي الدِّمَاغِ ثَلاثَةُ مَسَاكِنٍ مَسْكَنٌ لِلْتَخَيُّلِ وَهُوَ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَمَسْكَنٌ لِلْفِكْرِ وَهُوَ فِي وَسَطِهِ وَمَسْكَنٌ لِلْذِكْرِ وَهُوَ فِي مُؤَخِرِهِ وَلا يُسَمَّى عَاشِقًا إِلا مَنْ إِذَا فَارَقَ مَعْشُوقَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ تَخَيُّلِهِ فَيَمْتَنِعُ عَنِ الطَّعَام وَالشرَاب عَن بِاشْتِغَالِ الْكَبِدِ وَمِنَ النَّوْمِ بِاشْتِغَالِ الدِّمَاغِ بِالتَّخَيُلِ وَالْفِكْرِ وَالذِّكْرِ فَتَكُونُ جَمِيعُ مَسَاكِنِ النَّفْسِ قَدِ اشْتَغَلَتْ بِهِ

<<  <   >  >>