للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حرمة الخمر [*]

(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو
مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب
وهو مؤمن) [١] وفي رواية للنسائي زيادة: (وذكر رابعة فنسيتها، فإذا فعل ذلك فقد
خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه) فليتأمل المسلمون لا سيما
المصريون في هذا وما في معناه ليعرفوا منه، ومما تقدم من الأحاديث في الأمراء
السبب في حرمانهم من السيادة والعز الذي أعطاه الله لسلفهم بالإسلام، وجعلهم
بدينهم فوق جميع الأنام.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها
حُرمها في الآخرة) [٢] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل شراب أسكر فهو حرام) [٣] ومن جهل
بعض مدمني الخمر أنهم يقولون: إنه لا دليل على تحريمها، ويؤولون قوله تعالى:
{فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: ٩٠) وهو أمر بالترك يقتضي التحريم بحسب قواعد
أصول الفقه، وقوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة: ٩١) يحملونه على
الاستفهام الحقيقي، وهو جهل أو استهزاء بكتاب الله تعالى، فإن كانوا لا يرون
دليلاً على الحرمة إلا لفظ حرام، فماذا يقولون في هذا الحديث الصحيح؟ أيستدلون
به على التحريم أم يأخذون بقول تلك المجلة التي سألها مسلم مصري عن دليل
تحريم الخمر فأجابه محررها - وهو مسيحي - أنه لا دليل في الدين على تحريمها
ولكن أمر باجتنابها لما فيها من المضرات، وليس أمر هذا المفتي في هذه المسألة
بعجيب، ولكن العجيب أمر المستفتي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير
اسمها) [٤] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ستشرب أمتي بعدي الخمر يسمونها بغير اسمها
يكون عونهم على شربها أمراؤهم) ولولا الأمراء لما فشا شربها واستبيح جهرًا،
ولا يخفى أن معتقد حل الخمر كافر باتفاق الأئمة والفقهاء.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله شارب الخمر وساقيها وبائعها ومبتاعها
وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها) [٥] وقد احتمل أكثر
المسلمين في مصر كل هذه اللعنات إلا الأخيرة؛ فإنهم حمَّلُوها للأجانب، وأعطوهم
أجرة حملها الملايين من الجنيهات والألوف من فدادين الأطيان، يدخل الرومي البلد
من القطر المصري لا يملك إلا بعض زجاجات من الخمر، فلا يمر عليه زمن حتى
يكون سيد البلد وبيده زمام زراعتها وتجارتها، وإليه مرجع أغنيائها وسادتها {رَبَّنَا
إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ
لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب: ٦٧-٦٨) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة:
مدمن الخمر والعاق - أي المؤذي لوالديه - والديوث الذي يقر في أهله الخبث) [٦] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدًا: الديوث والرجلة
من النساء ومدمن الخمر) قالوا يا رسول الله، أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما
الديوث؟ قال: (الذي لا يبالي من دخل على أهله) قلنا: فما الرجلة من النساء؟
قال: (التي تَشبَّه بالرجال) [٧] .
عن ابن عمر أن أبا بكر وعمر وناسًا جلسوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلى عبد الله بن
عمرو بن العاص أسأله، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم
فأنكروا ذلك، ووثبوا إليه جميعًا، حتى أتوه في داره، فأخبرهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (إن ملكًا من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيره بين
أن يشرب الخمر أو يقتل نفسًا أو يزني أو يأكل لحم الخنزير أو يقتلوه، فاختار
الخمر، وإنه لما شرب الخمر لم يمتنع من شيء أرادوه منه) [٨] وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة، ولا
يموت وفي مثانته منه شيء إلا حرمت بها عليه الجنة، فإن مات في أربعين ليلة مات
ميتة جاهلية) وورد في هذا المعنى كثير؛ ولكن في أكثره جرحًا أو نكارة.
***
حد الخمر وعقوبة السكر
عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال،
وجلد أبو بكر أربعين) [٩] .
وعن السائب بن يزيد قال: (كنا نؤتي بالشارب في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وفي إمرة أبي بكر، وصدر من إمرة عمر فنقوم إليه نضربه
بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان صدرًا من إمرة عمر، فجلد فيها أربعين، حتى
إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين) [١٠] .
وعن حصين بن المنذر قال: (شهدت عثمان بن عفان أُتي بالوليد قد صلى
الصبح ركعتين، ثم قال أزيدكم، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب
الخمر، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها،
فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها
من تولَّى قارها، فكأنه وَجَدَ عليه، فقال يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده
وعلي يَعُدُّ حتى بلغ أربعين، فقال أمسك، ثم قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم
أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكلٌّ سنة وهذا أحب إلي) [١١] الظاهر
أن الإشارة إلى ما فعل بين يديه وهو الأربعون.
وعن علي أنه قال: (ما كنت لأقيم حدًّا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه
شيئًا إلا صاحب الخمر؛ فإنه لو مات وَدَيْتُه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يسنه) [١٢] قال في منتقى الأخبار: يعني لم يقدره ويوقته بلفظه ونطقه،
أقول ولم يلتزم عددًا بعمله.
وعن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شربوا الخمر فاجلدوهم
ثم إذا شربوا فاجلدوهم ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم) [١٣] .
وعن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر فجلد
بجريدتين نحو أربعين، قال وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد
الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر) [١٤] .
والحاصل أن مجموع الأحاديث الصحيحة على أن عقوبة الخمر من
التعزيرات المفوضة إلى ما يراه الإمام أصلح بالمشاورة؛ ولكن الفقهاء أجمعوا بعد
ذلك على الحد المعين.
***
آثار السلف عبرة للخلف
قصة أبي محجن
قال الحافظ ابن حجر في (أسد الغابة) إن أبا محجن الثقفي كان يشرب
الخمر، لا يتركها خوف حد ولا لوم، وإن عمر حدَّه مرارًا ونفاه إلى جزيرة في
البحر، وبعث معه رجلاً فهرب منه، ولحق بسعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية
يحارب الفرس، فكتب عمر إلى سعد ليحبسه فحبسه، فلما كان بعض أيام القادسية
واشتد القتال بين الفريقين، سأل أبو محجن امرأة سعد أن تحل قيده وتعطيه فرس
سعد البلقاء، وعاهدها أنه إن سلم عاد إلى حاله من القيد والسجن، وإن استشهد فلا
تبعة عليه فلم تفعل فقال:
كفى حَزَنًا أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأُترك مشدودًا عليَّ وثاقيا
إذا قمت عنّاني الحديد وأُغلقت ... مصارع دوني قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا
حبسنا عن الحرب العوان وقد بدت ... وإعمال غيري يوم ذاك العواليا
فلله عهد لا أَخيس بعهده ... لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا [١٥]
فلما سمعت سلمى امرأة سعد ذلك رقت له، فخلت سبيله وأعطته الفَرس فقاتل
قتالاً عظيمًا، وكان يكبر ويحمل فلا يقف بين يديه أحد، وكان يقصف الناس قصفًا
منكرًا، فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، ورآه سعد وهو فوق القصر ينظر إلى
القتال، ولم يقدر على الركوب لجراح كانت به وضربان من عرق النسا فقال [١٦] :
لولا أن أبا محجن محبوس لقلت هذا أبو محجن، وهذه البلقاء تحته، فلما تراجع
الناس عن القتال عاد إلى القصر وأدخل رجليه في القيد، فأعلمت سلمى سعدًا خبر
أبي محجن، فأطلقه وقال اذهب لا أحدك أبدًا، فتاب أبو محجن حينئذ وقال:
(كنت آنف أن أتركها من أجل الحد) اهـ. وفي رواية لغيره أنه قال: (وأنا والله
لا أشربها أبدًا؛ إنما كنت أشربها إذ كنتم تطهروني) .
وفي الكامل لابن الأثير أنه قال حين رجع إلى القيد:
لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكرمهم سيوفا
وأكثرهم دروعًا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنا وفدهم في كل يوم ... فإن عُمُّوا فسل بهم عريفا
وليلة قادس لم يشعروا بي ... ولم أشعر بمخرجي الزحوفا
فإن أُحبس فذلكم بلائي ... وإن أُترك أذيقهم الحتوفا
وزعم ابن الأثير أن سلمى سألته فيم حبسه سعد، فحلف أنه ليس بحرام أكله
أو شربه، قال: ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب
الشعر على لساني فقلت:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
فلذلك حبسني) اهـ، والأول هو الصحيح ويدل عليه قوله:
ألم ترني ودعت ما كنت أشرب ... من الخمر إذ رأسي لك الخير أشيب
وكنت أروي هامتي من عقارها ... إذ الحد مأخوذ وإذ أنا أضرب
فلما دَرَوْا عني الحدود تركتها ... وأضمرت فيها الخير والخير يطلب
وقال لي الندمان لما تركتها ... أالجدُّ هذا منك أم أنت تلعب
سأتركها لله ثم أذمها ... وأهجرها في بيتها حيث تشرب

الاعتبار في الأثر: يقرأ بعض الفساق أو يسمع بأن مثل أبي محجن رضي
الله عنه كان يشرب الخمر، فيغش نفسه بأن الأمر ليس بعظيم، وإن حسبه أن
يكون كأبي محجن في مدخله ومخرجه ودنياه وآخرته ويا ليت الهوى يصدق صاحبه
ويعز جانبه، وإننا نذكر من وجوه العبرة في الأثر ما يقطع أسباب الأماني ويحل
عرى الأهواء، وذلك من وجوه:
الأول: أن أبا محجن كان مدمنًا للخمر في الجاهلية، ومدمنها يصاب بداء
الخمار على ما أشرنا في المقالة الأولى، فيصير مغلوبًا على أمره؛ لأنه مريض،
ولمَّا أسلم وعلم أن في الشرب حدًّا إذا أقيم على الشارب سقطت عنه العقوبة في
الآخرة - رجح احتمال عقوبة الحد على احتمال ألم مرض الخمار الذي يزعجه إلى
الشرب، فلم يكن في شربه متهاونًا بالدين، ولا مستخفًّا بعذاب الآخرة؛ ولذلك جرَّد
حسام العزيمة على مرض الشهوة فجندله عندما قال سعد إنه لا يحده، وفي ذلك من
قوة الإيمان ما يعلو الأهواء، ويلاشي الأدواء، وهو الذي يجب أن يكون عبرة
للمعتبرين وقدوة لهم إن كانوا مؤمنين.
الثاني: أن أمر سيدنا عمر بإبعاد أبي محجن إلى جزيرة في البحر بعد أن
حده سبعًا أو ثمانيًا على ما في (أسد الغابة) يرشدنا إلى أن أمير المؤمنين يجب
عليه أن يلاحظ الآداب العامة، ويبعد عنهم ما يكون قدوة سيئة، وقد وافق رأيه هذا
بعض فلاسفة أوربا فقال إن المجرمين الذين انطبعوا على الجرائم وتمكنت منهم
يجب إبعادهم إلى جزائر في البحر، ومنعهم من التزوج ليزول عن الناس شرهم،
وينقطع نسلهم الذي يرث منهم الاستعداد لمفاسدهم، ولكن إذا كان أمراء المسلمين
هم الذين يعلمونهم السكر ويدعونهم إليه كما هو معلوم الآن من أكثرهم، فمن الذي
يمنع هذه المنكرات: (ما يصلح الملح إذا الملح فسد) .
الثالث: لم ينقل أن أحدًا أنكر على سعد رضي الله عنه ترك حده أو عزمه
على ذلك، وهذا يدلنا على أنهم كانوا يرون أن العقوبة على الخمر من التعزيرات
كما تقدم، وهذه مفوضة إلى رأي الحاكم بالنسبة إلى الأفراد، وأما التقدير لها فهو
من وظائف الإمام التي يقررها بمشاورة أهل الرأي كما فعل عمر رضي الله عنه،
وتقدم أن الفقهاء أقروا ما قدَّره عمر، وجعلوه حدًّا ثابتًا لا يزيد ولا ينقص.