للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نساء المسلمين
تابع المحاورة الأولى بين فاطمة علية هانم كريمة جودت باشا وبعض نساء
الإفرنج بعدما بينت الكاتبة حال البنات الجركسيات الجميلات قالت في تتمة الجواب:
وأما غير الجميلات من أولئك البنات؛ فإنهن مضطرات إلى إنفاق العمر في
بلادهن بالأعمال الشاقة كالزرع والحصاد لا بخدمة البيوت فقط؛ ولكن إذا لم يكن
النظر في المرآة يطمعهن في دار السعادة فإن لهن فيها مطمعًا آخر، وهو الرسائل
والمكاتيب التي تجيء من بنات أعمامهن وعماتهن وأخوالهن وخالاتهن وصواحبهن
الجميلات؛ فإنها تحدث عندهن أملاً في ترك الشقاء في بلادهن وإصابة حظ من
السعادة في الآستانة إذ يسمعن في تلك المكاتيب أن الجارية فلانة قد كافأها سيدها
على حسن الخدمة ببيت، وزوَّجها برجل ملائم لها، وإذا رُزقت الجارية بغلام
تبشر أهلها، ثم ترسل علامة سلامه إليهم بأن تلوث أصبعه بالحبر وتضعه في ذيل
المكتوب، فهذه الأخبار تملأ خيالات البنات فينفرن من بيوتهن ويستثقلن المعيشة
فيها، ثم تثقل عليهن الخدمة التي كن تعودنها، بل يستبشعن الذي تربين عليه،
ويستحوذ عليهن الخمول والكسل، فيلقين لذلك ضروبًا من إهانة أهليهن كقولهم:
(إن الخبز لا يؤكل بدون تعب) فحينئذ تناجي الواحدة منهن نفسها: أليس من البلاء
أن أضطر إلى الحرث والزرع والحصاد لأجل الوصول إلى لقمة من الطعام؟ أليس
الاتصال بأحد الأفندية في الآستانة خير لي: يأتيني رزقي رغدًا، ولا أكلف إلا
بخدمة البيت وهي يسيرة، تعلمني كيف أدير شؤون منزلي، إذا أنا صرت سيدة،
فهذه الحالات والتصورات تبعث فيها الرغبة الصادقة في أن تكون جارية في
الآستانة عدة سنين، ثم تكون سيدة ناعمة العيش طول حياتها تلح بها الرغبة في
الهجرة على حبها الطبيعي لوالديها ولوطنها؛ ولكن بعض الحب يغلب على بعض،
ذكرت لك الواقع أيتها المدام من غير حكم عليه بخطأ ولا صواب، فما هو رأيك
في رغبة مثال هذه الجركسية أيجامع حب الأهل والوطن، أم هو من الإفراط في
حب الذات؟
ف: أراك قد عرفت الرق تعريفًا لطيفًا يكاد يجعل كل إنسان يود أن يكون
رقيقًا.
أنا: كلا إنه ينبغي لنا أيتها المدام أن نكثر الأرقاء؛ فإن ذلك يستلزم قلة
حماتهم.
وبينا كنا نتضاحك من موضوع القول كانت الراهبة لا تزال معرضة عن
حديثنا، وربما لم تكن فطنت له كما تدل على ذلك ملامحها، ثم إنني انتبهت إلى
كلام المدام انتباهًا جديدًا لم يكن من قبل فقلت:
(إن ما ذكرته لك عن الجواري والأرقاء هو مبني على قواعد الشرع،
وعلى عادات البيوت والأُسر المتأدبة بآداب الدين والعمل بأحكامه، وهذا لا ينافي
أن يكون في الناس من ينحرف عن جادة الدين والإنسانية في أمر الرق؛ فإن الدهر
بالناس قُلَّب وكثيرًا ما يفضي تقلبه بهم إلى تحويل الحسن إلى رديء، واستبدال
الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومن ذلك أن بعض الآباء يبيعون بناتهم اللاتي
يرغبن عن العزبة ويفضلن المعيشة في أعشاشهن التي نشأن فيها لينتفعوا بثمنهن،
ومن الموالي من يعامل الجارية التي يشتريها بما تأباه المروءة ولا ترضى به
الشريعة فيستخدمها ثلاثًا أو خمسًا، ثم يبيعها من آخر ابتغاء الربح، أليس من
المعهود في الناس قلب المنافع إلى مضار، وتأويل أنفع القوانين وأعدلها ميلاً مع
الهوى والغواية وارتكاسًا بين أمواج الضلالة؟ والذي يمسك بالنفس أن تذهب عليهم
حسرات أنهم قليل ومعدودون من الشذاذ فليس لمذهبهم في تأويل الشريعة وسوء
استعمال العرف والعادة تأثير في مجموع الأمة؛ لأنهم ساقطون من نظر الخواص.
مدام ف مُظهِرة الإعجاب بالقول والعناية به: إنه كثيرًا ما يطرأ على
المروءة ما يذهب بأثرها من المودة والرحمة والرعاية والحرمة بين أهل البيت من
الوالدين والأولاد والأزواج فيتقطع بينهم، وهذا حاصل ومعروف في أوربا،
ومفاسد الرق معروفة عندنا، وقد كتب فيها كثير؛ ولكنا كنا نجهل من تعريفها
وشؤونها عند المسلمين ما عرفته منك وأنا به مغبوطة وشاكرة، وأسألك رأيك في
الذين يبيعون أطفالهم قبل التمييز.
أنا: إن هؤلاء أشد رغبة في سعادة بناتهم، فلا يكتفون بأن يكن سيدات بجاه
أزواجهن، بل يتشوفون إلى تعليمهن وتربيتهن في دار السعادة، أتدري من
يشتريهن.
ف: إن تصور بيعهن راعني وأذهلني عن التفكر فيما عداه، كالمشتري
وغيره.
أنا: لعله لا يذهلك عما أقوله، وهو أن ممن يشتري (هؤليَّا) الجواري العقماء
والعُقَّر - جمع عاقر للرجل والمرأة - فيكنَّ لهم كالأولاد، ومن الناس من يشتري
الجميلات ويربيهن تربية بنات الوجهاء في المدن ليبيعهن إلى العظماء، وهل
يقصر في تربية الجارية من يبيعها بخمسمائة ليرة أو ألف ليرة؟ وأكثر أصحاب
البيوتات يشترون الجواري من هؤلاء المربيات المتعلمات لأجل الاقتران بهن،
ومنهم الذين يربونهن ليتزوج بهن أبناؤهم أو ليكن أترابًا مؤنسات لبناتهن، فلكل
فتاة من الأسر الكريمة تِرْب من الجواري، تتعلم معها وتربى تربيتها وتعتق يوم
تتزوج الفتاة، فيكثر الراغبون في الاقتران بها من خيار الناس.
ف: يخيل إلي من كلامك أنني ضللت في سفري فوقعت في غير تركيا.
أنا: السبب في هذا أن السائحين منكم لا يعرفون من دار السعادة إلا فنادق بك
أوغلي، وطرقات المدينة وأسواقها، فأكثر ما في كتبهم أغلاط وأوهام يتلقفونها من
المترجمين الجاهلين بحال المدينة، وإننا نظن عند قرائتها أننا نقرأ عن عالم
مجهول.
وبينا نحن نتكلم دخلت علينا جارية حبشية كانت منذ دبَّت إلى أن شبَّت متنوّفة
في الزينة منشَّأة في التطرس والتطرز فلما رأت مدام ف.. زيها وحليها قالت
بدهشة وروعة: من هذه التي تعلو رئيسة الخدم زينة وحليًّا؟
أنا: إنها جارية تربت عندنا، وأبت الحرية، فأعطيناها كتابًا بأن أمر
حريتها لها.
ف: نادت الحبشية وسألتها بواسطتي عن السبب في إباء الحرية، فقالت:
إنني متى جاءني زوج أرتضيه أعتق نفسي وأتزوج به، وإلا فأنا فاكهة في نعمة لا
أجد مثلها، فسألتها كيف يكون الزوج الذي ترضينه؟ فقالت: هو من يطعمها كما
تأكل في بيت سيدها ويكسوها كما تكتسي ولا يحملها خدمة أكثر مما تحمله الآن.
لها بقية