للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القضاء في الإسلام
الترغيب والترهيب

قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في
النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق وجار في
الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) [١] ومَن أجدر
بالنار ممن يقضي بغير الحق، فيضيع على الناس حقوقهم بجهله أو بهواه؟ والحق
هو ما كان عليه الأمر في نفسه، فالمبطل من الخصمين من يخفيه، والمحق من
يطلب إظهاره. وإصابته في الحكم هي العدل، فالحق والعدل لا يعرفان من كلام
المصنفين والمؤلفين؛ وإنما كلام العلماء يبصر القاضي ويهديه إلى طريق الحق،
وهو يصل إليه باجتهاده وتحريه وتوفيق الله تعالى، واستدلوا بالحديث على أن
القاضي لا يكون إلا رجلاً.
وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال قلت: يا رسول الله ألا تستعملني،
قال فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم
القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) [٢] وفي حديث
آخر أنه قال له: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب إليك ما أحب لنفسي لا
تَأَمَّرن على اثنين ولا تَوَليَنَّ على يتيم) [٣] في الحديث دليل على أن الضعيف لا
يُولَّى القضاء. والضعف على إطلاقه، فيشمل ضعف الرأي وضعف العزيمة
والإرادة وضعف النفس بأن يكون ممن يغلب عليه الخجل والحياء من الصدع بالحق
أو يكون سريع التأثر والانفعال قريب الانخداع، ومن الضعف أن يكون مهينًا
عند الناس غير محترم ولا موقر لحال فيه تقتضي ذلك كالإفراط في الدعابة والإلمام
بالخسائس والمحقرات.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من جُعِل قاضيًا بين الناس فقد ذُبح بغير
سكين) [٤] الحديث تمثيل لخطر المنصب وحرج الموقف؛ فإن القاضي إذا جار وظلم
كان له الخزي وسوء الأحدوثة في الدنيا، وسخط الله وعقوبته في الآخرة، وإن عدل
أسخط نصف المتقاضين كما قيل:
إن نصف الناس أعداء لمن ... وُلِّي الأحكام هذا إن عدل
هكذا حمل أكثر العلماء الحديث على التنفير من القضاء وبيان الخطر فيه،
وقالوا: إن قوله (بغير سكين) تهويل للذبحة وبيان لشدتها؛ لأن أهون الذبح ما كان
بسكين، فإن كان بمحدد آخر كالظرَّان كان أشبه بالخنق وسخروا من قاضٍ قال إن
ذلك إشارة إلى الرفق وإراحة المذبوح، ولهذا الحديث وأمثاله كان أهل الدين
والورع من السلف يتحامون القضاء ويفرون منه، فكان ذلك سببًا في جعل هذا
المنصب العظيم في أهل الطمع والدهان للأمراء والسلاطين، وكانت هذه السنة من
أقتل أمراض المسلمين، وأفتك أدوائهم في الدنيا والدين.
وحمل أبو العباس أحمد بن القاص الحديث على جهاد النفس وترك الهوى،
وقال: إنه لا يفيد كراهية القضاء وذمه، واستشهد لذلك بأحاديث ذكر فيها الذبح
وأطال في بيان ذلك، وأيده بما ورد في تعظيم شأن الحكم بين الناس في الكتاب
والسنة، وأنه وظيفة الأنبياء عليهم السلام وذكر من وَلِيَ القضاء من الصحابة
عليهم الرضوان، ولا حاجة إلى هذا كله في تأويل الحديث؛ فإن الترهيب له أهل
وقد علم قاضي الجنة من قاضي النار.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من ابتغى القضاء وسأل فيه الشفعاء وكل إلى
نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدده) [٥] وفي حديث الصحيحين الوارد
في مطلق الإمارة لم يشترط الإكراه عليها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (يا عبد
الرحمن بن سمرة لا تسأل عن الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها
وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) وهذا الإطلاق هو الظاهر، وتؤيده الرواية
الأخرى؛ لأن الذين يتهافتون على القضاء والإمارة هم الذين يبتغون بالمناصب
المال والجاه، لا إقامة العدل وتعزيز الحق؛ ولذلك يطلبونها بالشفعاء، وقلما يسأل
المستعد للشيء الطالب للحق شفيعًا يوصله إليه؛ لأنه يعتمد في الغالب على
استعداده، إلا إذا كان في أمة وحكومة ضاع الحق بينهم، وحينئذ يفضل البعد
والهرب من المناصب غالبًا.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله مع القاضي ما لم يَحِفْ عمدًا) [٦] وقال
صلى الله عليه وسلم (إن الله مع القاضي ما لم يَجُر، فإذا جار تبرأ الله منه ولزمه
الشيطان) [٧] ونكتفي بهذا القدر من أحاديث الترغيب والترهيب، فمقام القضاء
مقام رفيع، وعلى قدر الارتفاع يكون خطر السقوط، وسيأتي بآدابه وأحكامه في
الأجزاء التالية إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))