للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خبر سلمان الفارسي وإسلامه
رضي الله عنه [*]

روى ابن أبي شيبة في مسنده عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: (كنت من
أبناء أساورة فارس، وكنت في كُتَّاب ومعي غلامان، وكانا إذا رجعا من عند
معلمهما أتيا قسيسًا فدخلا عليه فدخلت معهما، فقال ألم أنهكما أن تأتياني بأحد،
فجعلت أختلف إليه حتى كنت أحب إليه منهما، فقال لي إذا سألك أهلك عن حبسك
فقل معلمي، وإذا سألك معلمك فقل أهلي، ثم إنه أراد أن يتحول فقلت له أنا أتحول
معك فتحولت معه، فنزلت بقرية فكانت امرأة تأتيه، فلما حُضِر [١] قال يا سلمان
احضر عند رأسي، فحضرت عند رأسه فاستخرجت جرة من دراهم، فقال صبها
على صدري، فصببتها على صدره فكان يقول: ويل لاقتنائي، ثم إنه مات فقلت
للرهبان من لي برجل عالم أتبعه؟ فَدَلُّوني على رجل فأتيته، فقلت ما جاء بي إلا
طلب العلم، قال فإني والله ما أعلم اليوم رجلاً أعلم من رجل خرج بأرض تيماء
وإن تنطلق الآن توافقه وفيه ثلاث آيات: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وعند
غضروف كتفه اليمنى خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة لونها لون جلده، فانطلقت
حتى مررت بقوم من الأعراب فاستعبدوني فباعوني حتى اشترتني امرأة من المدينة
فسمعتهم يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت لها هبي لي يومًا، قالت نعم
فانطلقت فاحتطبت حطبًا فبعته وصنعت طعامًا، فأتيت به النبي صلى الله عليه
وسلم وكان يسيرًا، فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا، قلت صدقة، فقال
لأصحابه (كلوا) ولم يأكل قلت هذا من علامته، ثم مكثت ما شاء الله أن أمكث،
ثم قلت لمولاتي هبي لي يومًا قالت نعم فانطلقت فاحتطبت حطبًا فبعته بأكثر من
ذلك، وصنعت طعامًا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين أصحابه
فوضعته بين يديه فقال ما هذا؟ قلت: هدية، فوضع يده فقال لأصحابه (خذوا
بسم الله) وقمت خلفه فوضع رداءه فإذا خاتم النبوة، فقلت أشهد أنك رسول الله قال:
(وما ذاك) فحدثته عن الرجل، ثم قلت: أيدخل الجنة يا رسول الله فإنه حدثني
أنك نبي قال: (لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة) .
وفي كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار المنسوب للشيخ محيي الدين بن
عربي بعد ذكر الأسانيد ما نصه:
(عن ابن عباس قال: حدثني سلمان قال كنت رجلاً فارسيًّا من أهل
أصبهان من قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان في قريته، وكنت من أحب الخلق
إليه، فما زال حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية، وكنت قد
اجتهدت مع المجوسة حتى كنت قَطِنَ النار أوقدها لا أتركها تخبو ساعة اجتهادًا في
ديني، وكان لأبي ضيعة في عمله، وكان يعالج بيتًا له في داره، فدعاني فقال:
أي بني إنه قد شغلني بنياني كما ترى، فانطلق إلى ضيعتي هذه ولا تحتبس علي؛
فإنك إن احتبست علي كنت أهم إليّ من ضيعتي ومن كل شيء، وشغلتني عن كل
شيء من أمري، قال فخرجت أريد الضيعة التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من
كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس
لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يفعلون،
فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، فقلت والله هذا خير من الدين
الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غابت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم آتها
ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين فقالوا بالشام.
قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي فشغلته عن عمله كله، فلما جئته
قال يا بني أين كنت ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال قلت: يا أبي مررت بناس
يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى
غربت الشمس، قال أبي: أي بني ليس في ذلك الدين خير، بل دينك ودين آبائك
خير، قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا، قال فخافني وجعل في رجلي قيدًا ثم
حبسني في بيتي.
قال: وبعثت إلى النصارى، فقلت إن قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني،
فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني قلت إذا قضوا حوائجهم
وأرادوا الرجعة إلى بلادهم أعلموني بهم، قال فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت
معهم حتى قدمت الشام، قلت من أفضل هذا الدين علمًا؟ قالوا الأسقف في الكنيسة،
فجئته فأعلمته أني قد رغبت في هذا الدين وأكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم
منك وأصلي معك، قال فافعل وادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم
بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئًا كنزه لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا
فما لبث أن مات فعرَّفت النصارى بأمره، قالوا وما علمك بذلك، قلت أنا أدلكم
على كنزه، فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وفضة ووَرِقًا،
فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه وصلبوه، ثم رموه بالحجارة.
ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً في ملته أفضل منه،
وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهارًا، قال فأحببته حبًّا لم
أحب شيئًا كان مثله، فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان إني
كنت معك وأحببتك حبًّا لم أحب شيئًا كان قبلك مثله، وقد حضرك ما ترى من أمر
الله تعالى فإلى من تأمرني ألحق به، قال يا بني والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما
كنت عليه، لقد هلك الناس وبدَّلوا كثيرًا ما كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل وهو
فلان، وهو على ما كنت عليه فالحق به، فلما غُيب لحقت بصاحب الموصل فقلت
يا فلان إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال
أقم عندي فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات
فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانًا أوصاني إليك وأمرني باللحوق بك، وقد
حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصيني؟ قال: والله إني ما أعلم رجلاً على ما
كنت عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان فالحق به، فلما مات وغُيب لحقت
بصاحب نصيبين، فجئته وأخبرته خبري وما أمرني به صحابي، فقال أقم عندي
فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت معه فكان خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به
الموت، فلما حضرته الوفاة قلت يا فلان إن فلانًا أوصاني إلى فلان وأوصاني فلان
إليك فإلى من توصيني وما تأمرني، قال أي بني ما أجد أحدًا بقي على أمرنا آمرك
أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل أمرنا، فإن أحببت فائته
فلما مات وغُيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال أقم عندي فأقمت
عنده فوجدته خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم.
قال: ثم اكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، ثم نزل به أمر الله تعالى فلما
حضرته الوفاة قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ثم أوصاني
فلان إلى فلان ثم أوصاني فلان إليك فإلى من توصيني وتأمرني، قال أي بني والله
ما أعلم على ما كنا عليه أحدًا من الناس آمرك أن تأتيه؛ ولكن قد أظلك زمان نبي
هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين الحرتين بها
نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة،
فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي من كلب
تجار فقلت أتحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقري هذا وغنيمتي هذه،
فأعطيتهم إياها وحملوني معهم، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني وباعوني
من رجل يهودي، فكنت عنده ورأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذي وصفه
لي صاحبي، فبينما أنا كذلك إذ قدم ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني
منه وحملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت
بها وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر على
ما أنا عليه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فبالله إني لفي رأس عذق لسيدي
أعمل فيها بعض عمله، وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له فوقف عليه فقال يا
فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن مجتمعون بقبا على رجل قدم عليهم من مكة
اليوم يزعم أنه نبي، قال فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني ساقط على
سيدي فنزلت عن النخلة، وجعلت أقول لابن عم سيدي ما تقول فغضب سيدي
فلطمني لطمة شديدة، ثم قال لي ما لك ولهذا أقبل على عملك، قلت لأي شيء
أردت تستبين عما قال، وكان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم
ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت المسجد عليه فقلت
له بلغني أنك رجل صالح معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء عندي
للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، ثم قربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (كلوا) وأمسك يده ولم يأكل، فقلت في نفسي هذه واحدة.
ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا لما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة، فجئته فقلت له إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي هاتان
ثنتان.
ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد تبع جنازة رجل
من أصحابه عليه شملتان، فسلمت عليه ثم استدبرته أنظر إلى ظهره هل أرى
الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم
استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وُصف لي، فألقى رداءه عن ظهره،
فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم تحول فجلست بين يديه، فقصصت حديثي كما حدثتك يا ابن عباس،
فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع أصحابه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كاتب يا سلمان) فكاتبت صاحبي
على ثلاثمائة نخلة أجبيها بالفقر، وبأربعين أوقية من ذهب، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (أعينوا أخاكم) فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين، والرجل بخمسة
عشر، والرجل بقدر ما عنده حتى جمعوا ثلاثمائة ودية، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (اذهب ففقرها، فإذا فرغت أكون أنا أضعها بيدي) قال ففقرت لها،
فأعانني أصحابه حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم معي إليها فجعلنا نقرب له الودي، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيده الشريفة حتى فرغنا، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت
النخل وبقي علي المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة
من ذهب فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟ فدعيت له فقال: (خذ هذه فأدها بما
عليك يا سلمان) قلت ما تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: (خذها فإن الله
سيؤدي بها عنك) فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفسي بيده أربعين أوقية فأوفيتهم
حقهم وعتق سلمان، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق وأحدًا ثم لم
يفتني اهـ.

(تفسير الغريب)
قوله: قَطِن النار قال شمر أي خادمها وخازنها، قال ابن الأثير أراد أنه
كان ملازمًا لها، ويروى بفتح الطاء جمع قاطن، فَقَر الأرض وفقّرها: حفرها،
والفقير: حفير يحفر حول الفسيلة إذا غرست، وفقير النخلة: حفيرة تحفر للفسيلة إذا
حولت لتغرس فيها، وفي الحديث قال لسلمان (اذهب ففقر الفسيل) أي احفر لها
موضعًا تغرس فيه الودية فسيلة النخل جمعها ودي اهـ. لسان العرب والعُرَواء رعدة
تأخذ الإنسان عند الحمى والفزع ونحو ذلك.
(المنار)
أوردنا هذه الرواية بطولها إجابة لرغبة بعض الفضلاء؛ ولأنها
ممثلة للانحراف عن الدين كيف يكون في الأمم حتى يبقى المستمسكون بالحق
معدودين يعرف بعضهم بعضًا على تنائي الدار، ولا يعرفهم سائر الناس
بخصوصيتهم، وفي هذا عبرة للذين يعرفون الحق بكثرة القائلين، إن كانوا بمثله
معتبرين.