للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاستهزاء بالعلم والعلماء وإهانة القرآن العزيز

جرَّأت فوضوية المطبوعات في مصر كثيرًا من الجاهلين على مقام الصحافة
فأنشأوا الجرائد للخوض في أعراض الناس، إلا أن يرضخوا لهم بشيء من المال
وعهدنا بهم النيل من الأغنياء والأمراء الذين يطمعون في أموالهم، ثم انتقلوا إلى
الطعن في العلماء، وبمناسبة ذلك انتقل بعض أهل هذه الحرفة إلى الكلام في بعض
المسائل الدينية عن جهل، ومنهم من زاد على ذلك إيراد بعض آيات القرآن في
مقام الهزء والسخرية، ومثل هذا يحكم العلماء بكفر مرتكبه وخروجه من الإسلام،
وإننا نذكر بعض نصوص فقهاء الحنفية في ذلك:
جاء في شرح الطريقة المحمدية للعلامة الخادمي (ص ١٧١ ج ٢) ما نصه:
(قال في الأشباه: الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر) وعن منية المفتي (تخفيف العلم
والعلماء كفر) وعن الخزانة (من أذل العلماء ينفى من البلد بعد تجديد الإيمان) وعن
مجموع النوازل (إهانة علماء الدين كفر) وعن المحيط (إن شتم عالمًا فقد كفر
فتطلق امرأته وهكذا وهكذا) أي ويأتي في حقه سائر أحكام الردة كالقتل إذا لم يتب،
وكتجديد عقد النكاح إذا تاب إلخ، وفي مختصر الفقيه يحيى بن أبي بكر الحنفي،
وهو موجود في دار كتب الأزهر الشريف من الفصل الثالث ما نصه: (ومن أنكر
آية من القرآن أو استهزأ بها، أو قال: ذهبت بجلد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: ١) أو قال أخذت بذيل {الم * تَنزِيلُ} (السجدة: ١-٢) أو قال
أنا أقصر من {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} (الكوثر: ١) أو قال لمن يقرأ عند الميت يس لا
تضع في فم الميت {يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ} (يس: ١-٢) أو قرأ على ضرب
الدف والبربط وغيرهما من آلات الملاهي - يكفر في جميع ذلك، ولو ملأ القدح فقال
{وَكَأْساً دِهَاقاً} (النبأ: ٣٤) أو أفرغها فقال فكانت شرابًا أو قال عند الكيل
والوزن بطريق الاستهزاء {وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: ٣)
يكفر، أو قال اجعل البيت مثل {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} (الطارق: ١) أو قال تعممت
بعمامة {أَلَمْ نَشْرَحْ} (الشرح: ١) يعني ابتدأت العلم، أو رأى جماعة
مجتمعين فقال بطريق الاستهزاء {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} (الكهف: ٤٧)
يكفر في ذلك كله، ثم قال: ولو تخاصم اثنان فقال أحدهما لا حول ولا قوة إلا بالله،
فقال آخر: لا حول، لا ينفع أو قال: أيش أعمل بها أد حقي - يكفر، ولو قال:
قشرت بجلد سبحان الله، أو سمع الغناء فقال اذكر اسم الله تعالى - يكفر، ولو أكل
طعامًا حرامًا فقال بسم الله يكفر، ولو قال بعد الفراغ الحمد لله، لا يكفر عند بعض
المشايخ، ولو قال عند شرب الخمر وغيرها من المحرمات بسم الله، يكفر بالاتفاق،
ثم قال: أو أذن بطريق الاستهزاء يكفر بالاتفاق.
وقال في الفصل الرابع ما نصه: (ولو قال لو لم يأكل آدم الحنطة ما وقعنا
في هذا البلاء، يكفر عند بعضهم، ولو قال لعلماء الدين: العلم الذي يتعلمه هؤلاء
أساطير وخرافات، أو قال: كل ما يقولون هباء وكذاب أيش أعمل بمجلس العلم لا
يثرد في القصعة - يكفر في ذلك كله) بل شدد بعض هؤلاء الفقهاء في مسألة إهانة
العلم والعلماء حتى قال بعضهم من صغَّر بابوج العلم يكفر، وكل هذا التشديد
العظيم لأجل حماية شرف الدين أن تناله ألسنة الجاهلين، فإذا لم يصح كون مثل
هذا التصغير كفرًا، فلا أقل من أن يكون معصية.
ولم يسلم من هزء بعض الجرائد الهزلية المعروفة قرآن ولا علم ولا دين، ولا
شك أن كل قارئ لهذه الجرائد وكل مشترك فيها وكل مبتاع لها فهو شريك لصاحبها
في الإثم؛ لأن الذي يعين على الشيء كفاعله، وإن كثيرًا من الناس ليفضلون قراءة
هذه الجرائد وإن ملئت بالكفر وقول الزور وثلب الأعراض وإشاعة الفواحش،
ويتحملون مقت الله وغضبه وإفساد أخلاق الأمة لأجل أن يضحكوا عند قراءتها،
ورحم الله الإمام الشافعي حيث قال: (نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون
ألسنتكم عن النطق به؛ فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء
في إنائه، فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم (وفي الحديث الشريف) وإن الرجل
ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً (وفي رواية: ليضحك بها الناس)
يهوي في جهنم سبعين خريفًا) .
***
خيانة الخدم
رب خادم خائن يؤذي مخدومه الإيذاء الكبير لينال بعض النفع الحقير، وأكثر
من يبتلى بهؤلاء الخدم أهل الاستقامة والتقوى؛ لأنهم لسلامة باطنهم يسلمون لمن
يستخدمونه تسليمًا لا يأتي من سواهم، ومن هؤلاء الرجال الوجيه الفاضل أمين بك
الشمسي الشهير فقد كان ابتلي بكاتب زوَّر إمضاءه وكتب ورقة عن لسانه أخذ بها
خمسمائة جنيه من أحد المصارف في الإسكندرية وضبطته الحكومة في طنطا قبل
أن ينفق جميع المال وحوكم، وقد جرت عادة أمين بك أن يأخذ ورقة إذن من
مصلحة سكة الحديد بالسفر في قطاراتها مدة سنة، وفي ابتداء كل سنة يجدد هذا
الإذن ويدفع عن السنة كلها مبلغًا معينًا لكثرة سفره، وقد جاء في بعض الجرائد من
عهد قريب أن بعض المفتشين رأى أن ورقة الإذن التي في يد سعادة أمين بك
مزورة بتغيير التاريخ من سنة ١٩٠١ إلى ١٩٠٢، ثم ذكرت الجرائد أن مصلحة
السكة الحديدية تبين لها براءة سعادة البيك من هذا العمل، وظهر أنه كان أمر كاتبًا
عنده بالذهاب إلى المصلحة لتجديد ورقة الإذن، فذهب وغيَّر التاريخ وأكل الدراهم
التي أخذها ليدفعها إلى المصلحة، ومن البديهي أن مثل هذا الرجل السليم القلب لا
يخطر في باله مثل هذه الخيانة ليدقق النظر في التاريخ حتى إنه لو لم يغيره بالمرة
لما فطن له، وقد وجد المبلغ مقيدًا في دفاتر البيك المنتظمة في وقته، وقد أعلمت
النيابة بأمر الكاتب ليحاكم ويعاقب على ما فعل.
***
كتاب أسد الغابة
هو للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري
المعروف بابن الأثير لا للحافظ ابن حجر كما ذكر في الجزء الماضي سهوًا.