للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القضاء في الإسلام
النبذة الثانية

(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
وجوب نصب القاضي:
(الحديث) [١] قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من
الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم) وفي رواية: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا
عليهم أحدهم) استدل العلماء بهذا الحديث على أن نصب الأمير الذي يسوس الناس
والقاضي الذي يحكم بينهم واجب شرعًا؛ لأن هذا أولى بالوجوب من تأمير
المسافرين - وإن كانوا أقل الجمع - واحدًا منهم عليهم، والعلة ظاهرة والعمل عليها
من أول الإسلام. وفي الحديث إرشاد إلى أن الأمة هي التي تولي الأمراء والحكام
كما تقدم شرحه في باب الأحاديث الواردة في الأمراء من المجلد الرابع.
موانع القضاء أو شروطه:
تقدم في الأحاديث السبعة التي أوردناها في النبذة الأولى ما يدل على أن
الضعيف لا يكون قاضيًا وبيَّنَّا أنواع الضعف، وأن الجاهل لا يكون قاضيًا. كما
يؤخذ من حديث قاضي الجنة وقاضيي النار وغيره. وأن الجائر لا يكون قاضيًا، وأن
المرأة لا تكون قاضية، وخالف في هذا الشرط الحنفية، ولو كان المخالف من علماء
هذا العصر لحكم بكفره أكثر المسلمين، ورموه بمصانعة الأجانب وتقليد الأوربيين،
وكذلك الصبي لا يكون قاضيًا، ونقل بعضهم الإجماع على هذا، ويستدل له بما
اسُتدِلَّ به على منع قضاء المرأة، وفي هذه الموانع أحاديث أخرى نورد بعضها [٢] :
قال صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان)
والقضاء ضرب من الإمارة ولا نعرف في الناس من تُوَلِّي الصبيان القضاء،
ولكنهم يولونهم الإمارة والسلطنة بالوراثة، وقد قلد المسلمون الأوربيين في هذه
الوارثة.
فأما أولئك فإنهم آمنون من مضرة ولاية الصبي؛ لأن حكوماتهم مقيدة بقوانين،
ووزراء مسؤلين ومنفذين، وإنما الحاكم العام، (كالملك ورئيس الجمهورية)
لأجل الوحدة في مصدر الأحكام، وهو لا يستبد دونهم بنقض ولا إبرام.
وأما بلاد الشرق فلقد تأصل فيها الاستبداد ورسخت عروقه، واعتادت أممها
عليه، وضعفت عن مقاومته، فلو قضت شئون السياسة وتقلب الحوادث على بعضها
بوضع قانون يجعل أحكامها مقيدة بالقوانين التي تغل أيدي الأمراء والسلاطين،
لَمَا وُجد مِن الأمة كافل يضمن تنفيذ القانون ولا استبد الحاكم الأكبر كيف شاء أو
يجد قوة أجنبية تأخذ على يده وتوقفه عند حده.
ولهذا المعنى كانت تولية الصبي الملك خطرًا في الشرق، ومثله المرأة. وأما
رأس السبعين في الحديث فقالوا: إنه إنباء بما وقع في عشر السبعين من الفتن،
كقتل سيدنا الحسين عليه السلام والرضوان ووقعة الحرة وغير ذلك.
عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس
ملكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) [٣] والنظر في
هذا الحديث الشريف من وجهين:
أحدهما: كونه خبرًا.
وثانيهما: كونه حكما شرعيًّا؛ لأنه يتضمن بمعناه النهي عن تولية النساء الأمور
العامة كالخلافة والقضاء.
أما الأول فهو مبني على العادة التي كانت متبعة في الشرق بل في العالم كله
وهي أن الأمر والنهي والتصرف السياسي والقضائي بأيدي الملوك والأمراء، ولا
شك أن هذه الوظائف لا يصح أن تسند إلى النساء؛ لأنهن أضعف رأيًا لاسيما في
محافل الرجال وما يتعلق بأعمالهم، وأقل جلدًا وثباتا وأميل مع الهوى؛ لرقة قلوبهن
وسرعة انفعالهن، ولأنهن إن يشتغلن بذلك يضعفن عن وظيفتهن الطبيعية وهى
تربية الأولاد وتدبير المنزل.
فإذا كان في المرأة استعداد لأنْ تُجاري الرجل وتكون مثله في كل شيء كما
يزعم بعض الأوربيين فهذا الاستعداد لما يتحقق فعلاً مع العناية بتربية النساء في أوربا فلا يعترض به على حديث قيل في شأن الفرس من ثلاثة عشر قرنًا، ولا
ينبغي السعي في تحقيقه بتربية المرأة كما يتربى الرجل تماما؛ لأن هذا يضر النوع
الإنساني من وجوه أهمها تربية الأولاد، فإن المُرَبِّي يجب أن يكون بينه وبين
المُرَبَّى تقارب وتناسب في السجايا والأخلاق والأفكار والرغائب؛ ليسهل الائتلاف
والامتزاج معه والتقليد له والأخذ عنه بالطبع لا بالتكلف. والمرأة وسط بين
الأطفال وبين الرجال فهي التي تربي البنات كل التربية وتربي الصبية التربية
الأولى التي تعدهم للأخذ عن الرجال والاقتداء بهم. وإذا اشتغل الرجل بتربية
الأطفال، فإنه يعامل الذكران والإناث معاملة الرجال، وفي ذلك خروج بالبنات عن
سنة الفطرة، وذهاب بالصبيان مع الفطرة.
وأما الثاني - وهو كون الحديث حكمًا شرعيًّا بمنع ولاية النساء - فهو من
جهةٍ مناسبٌ لاستعداد النساء ولوظيفتهن الفطرية، ومن جهة أخرى مناسب لما كانت
عليه حالة الأمم في ذلك العصر ولا حاجة لإباحته في عصر آخر بل فيه الضرر
المذكور في الوجه الأول وهو التعدي على وظيفة النساء الطبيعية.
ولا يعترض بحال أوربا وكون الدولة الإنكليزية أفلحت في عهد الملكة فيكتوريا
فلاحًا ما رأت هي ولا غيرها من الدول مثله؛ لأن فرقًا بين أمم أوربا والأمة
الإسلامية، وهو أن المَلك فيهم ليس له من الوظائف مثل ما للخليفة عند المسلمين،
فإن الخليفة هو الإمام الديني الذي يصلي بالناس ويخطب فهم ويؤمهم في حجهم عند
حضوره الحج وكل الأئمة والخطباء في البلاد الإسلامية وكل القضاة والمفتين نوابه
ووكلاؤه فهو الذي يقلدهم هذا المنصب بشرط الكفاءة، وإليه يرجعون في مسائل
الخلاف ليفصل فيها، ومن شروط الكفاءة أن يكون القاضي والمفتي في مرتبة
الأئمة المجتهدين في الدين ومعرفة مصلحة المسلمين. ولا يعرف هذا إلا من هو أهله.
وإن فَرَضْنا أن في استعداد المرأة الوصول إلى هذه المرتبة، وأنه لا ضرر في
هذا على النوع الإنساني، فهناك مانع آخر من إمامتها وهو: أنها تكون في طور لا
تصح فيه صلاتها بنفسها؛ فكيف تكون إمامًا لغيرها؟ ولا يقال: تستنيب؛ لأن من
ليس له الحق بشيء لا يصح أن يستنيب فيه؛ إذ النائب يؤدي وظيفة المنيب، ولا
وظيفة له هنا - هذا بعض ما يقال في المنع من الجهة الدينية المحضة، وثَمَّ موانع
أخرى من الجهة الدنيوية وهي كون الخليفة مدير السياسة والحروب ومتولي النظر
في المصالح الداخلية والخارجية، ولذلك اشترطوا أن يكون شجاعاً فإن قيل: إن
الإسلام شرع المشاورة في الأمور وجعلها فرضًا لازمًا ومنع الخليفة أن يستبد في
أمر بنفسه، وهذا عين ما عليه الأوربيون في تقييد الملوك بالمجالس النيابية. قلنا:
نعم هذا صحيح، ولكن الإسلام أوجب على الخليفة أن يكون عاملاً بالمشاورة لا أن
يكون آلة تجري الأُمور باسمه بدون شعور. والكلام في هذا المقال كثير وفيما
ذكرناه غناء للصبر.
ومن موانع القضاء عند الجماهير الرق وحكي عن العترة أنه يصح أن يكون
العبد قاضيًا، وكأنهم أخذوا بظاهر الحديث وهو: [٤] قال صلى الله عليه وسلم:
(اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) وفي رواية:
(اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله) قال القسطلاني في
شرح البخاري: معناه: إن استعمله الإمام الأعظم على القوم، لا أن العبد الحبشي هو
الإمام الأعظم؛ فإن الأئمة من قريش. اهـ، أو المراد به الإمام الأعظم على سبيل
الفرض والتقدير وهو مبالغة في الأمر بطاعته، والنهي عن شقاقه ومخالفته. اهـ أي:
ليس المراد به ظاهره فإن العبد إذا ولي الخلافة لا يطاع بل يخلع ويعزل: قال
الخطابي: قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود. وقال الحافظ في الفتح: ونقل ابن
بطال عن المهلب قال: قوله: (اسمعوا وأطيعوا) لا يوجب أن يكون المستعمِل للعبد
إلا إمام قرشي لما تقدم من أن الإمامة لا تكون إلا في قريش وقد أجمع الأمة على أنها
لا تكون في العبيد ويحتمل أن يكون سماه عبداً باعتبار ما كان قبل العتق. اهـ
والحاصل أن شروط القضاء في الشرع سبعة، كما قال في الأحكام
السلطانية: الرجولية، والحرية، والإسلام، والعدالة، والاجتهاد في العلم، والعقل،
وسلامة الحواس. وجوّز مالك قضاء الأعمى كما جوز شهادته.
***
آثار السلف عبرة للخلف
عدل عمر:
روى ابن عبد الحكم عن أنس أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن
الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذًا. قال:
سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن
الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم ابنه معه، فقدم، فقال عمر:
أين المصري؟ خذ السوط فاضرب. فجعل يضربه بالسوط، وعمر يقول: اضرب
ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه فما أقلع
عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو.
فقال: يا أمير المؤمنين! إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر
لعمرو: مُذْ كم تعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا! قال: يا أمير المؤمنين
لم أعلم ولم يأتني.
وروى عبد الرزاق في الجامع والبيهقي بسند صحيح عن ابن عمر قال:
شرب أخي عبد الرحمن وشرب معه أبو سروعة عتبة بن الحارث وهما بمصر في
خلافة عمر فسكرا فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا:
طهّرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه (يظهر من هذه الكلمة أنهما لم يكونا
يقصدان السكر ولم يعرفا ما هو الشراب) قال عبد الله: فذكر لي أخي أنه سكر،
فقلت: ادخل الدار أطهّرك ولم أشعر أنهما قد أتيا عَمْرًا فأخبرني أخي أنه أخبر
الأمير بذلك فقلت: لا تحلق اليوم على رءوس الناس ادخل الدار أحلقك. وكانوا إذ
ذاك يحلقون مع الحد فدخلا الدار. قال عبد الله: فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهم عمرو
فسمع بذلك عمر وكتب إلى عمرو أن ابعث إليَّ بعبد الرحمن على قتب ففعل ذلك،
فلما قدم على عمر جلده وعاقبه لمكانه منه ثم أرسله فلبث شهرًا صحيحًا ثم أصابه قدره فمات فيحسب عامة الناس أنه مات من جلد عمر ولم يمت من جلد عمرو.
وروى هذا الأثر ابن سعد في الطبقات مطولاً، ذكر فيه مجيء عبد الرحمن
إلى مصر ونزوله في أقصاها وأن عَمْرًا خشي أن يزوره أو يهدي إليه شيئاً فيعلم
أبوه عمر بذلك فيعاقبه؛ لأنه كان كتب إليه (إياك أن يقدم عليك أحد من أهل بيتي
فتَحْبُوه بأمر لا تصنعه بغيره) حتى جاءه هو ورفيقه أبو سرعة منكسرَيْنِ يطلبان
إقامة الحد عليهما. وفيه أن عمر لما علم أن عَمْرًا أقام الحد على ولده في بيته
وحلقه في بيته ظن أنها خصوصية اختص بها ولده، فكتب إليه يوبخه ويهدده بالعزل
ويطلب عبد الرحمن. وأن عَمْرًا اعتذر له بأن يحد كل مسلم وذمِّيٍّ في بيته.
اهـ ملخصًا من كتاب كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال.
((يتبع بمقال تالٍ))