للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


(الدرس ٣٢)

عصمة الأنبياء عليهم السلام
(المسألة ٧٩) حقيقة العصمة هي في اللغة: المنع، وقال الجرجاني ... في التعريفات: (العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها) أي إن
المعصوم من الشيء يجد في نفسه قدرة عليه ويشعر بزاجر منها يحول دون
الوقوع فيه.
فالعصمة وازع نفسي راسخ في النفس وهي في الأنبياء فطرية، وقد يكون
لغيرهم بحسن التربية من ملكة الفضيلة ما يربأ بنفوسهم عن موافقة الفجور والدنايا.
ويسمي علماؤنا هذا المعنى حفظًا؛ للتفرقة، وإنما يكون هذا بالتربية الفاضلة بين
الفضلاء مع مساعدة الوراثة واعتدال المزاج. وقد ينكر الذين ابتلوا باقتراف الكبائر
هذا المعنى أن يكون لغير الأنبياء، ويسلمون به للأنبياء تقليدًا. ولهم العذر فإنه أمر
لا يعرفه إلا من ذاقه وقليل ما هم.
***
(م ٨٠) العصمة في التبليغ.
جاء في المواقف أن أهل الملل والشرائع قد أجمعوا على عصمة الأنبياء
عن تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن
الله تعالى. وإن عاقلاً لا يجمع بين الإيمان والوحي والنبوة وبين تجويز كذب النبي
على الله تعالى فيما يبلغ عنه، فإن كان هذا جائزًا؛ فأي ثقة بالوحي؟!
وكيف يميز المكلف بين ما هو عن الله وما عن غير الله والمبلغ غير موثوق
بصدقه؟ !
ولقد أبعد القاضي - أحد أئمة الأشعرية - في قوله بجواز صدور الكذب منهم
سهوًا. وهو قول مردود لا يعوِّل عليه أحد. والدليل على هذا النوع من العصمة
هو عين الدليل على النبوة من الآيات العلمية أو الكونية.
***
(م ٨١) العصمة من الكفر.
أجمع المسلمون من جميع الفرق على عصمتهم من الكفر قبل النبوة وبعدها
وليس هنا شبهة لأحد فنتوسع فيه.
***
(م ٨٢) العصمة من كبائر الذنوب
قال في المواقف وشرحه: (أما الكبائر) ، أي: صدورها عنهم عمدًا (فمنعه
الجمهور) من المحققين والأئمة، ولم يخالف فيه إلا الحشوية، (والأكثر) من
المانعين (على امتناعه سمعًا) قال القاضي والمحققون من الأشاعرة: إن العصمة
فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلاً إذ لا دلالة للمعجزة عليه فامتناع الكبائر عنهم سمعًا
مستفاد من السمع وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين في ذلك. (وقالت المعتزلة بناء
على أصولهم الفاسدة في التحسين والتقبيح العقليين ووجوب رعاية الصلاح
والأصلح) (يمتنع ذلك عقلاً) ؛ لأن صدور الكبائر عنهم عمدًا يوجب سقوط
هيبتهم من القلوب وانحطاط رتبتهم في أعين الناس فيؤدي إلى النفرة عنهم وعدم
الانقياد لهم. ويلزم منه إفساد الخلائق وترك استصلاحهم وهو خلاف مقتضى
العقل والحكمة. (وأما) صدورها عنهم (سهوًا) وعلى سبيل الخطأ في التأويل
(فجوزه الأكثرون) والمختار خلافه. اهـ
ولم يذكر ناقلي الإجماع ولا كيف وقع هذا الإجماع، وما أراه إلا الإجماع
السكوتي. وعجيب من سادتنا الأشاعرة كيف ينقضون الأدلة العقلية على عصمة
الأنبياء لأجل مخالفة المعتزلة ولو بالتكلّف؟
إذ استلزام دليلهم للتحسين والتقبيح بالمعنى النافي لاختيار الله تعالى
ممنوع كما سنبينه.
ثم إنهم جوّزوا وقوع الكبائرمنهم سهوًا وتأويلاً كما ترى. وذكر السيد أن
المختار خلاف ما عليه الأكثرون. وقد جزم المتأخرون بهذا في عقائدهم، ولا
شك أن المتأخرين أشد تعظيمًا بالقول للأنبياء والصلحاء وكذلك في الاعتقاد
التخيلي دون البرهاني. على أنهم في هذه المسألة أقرب إلى الصواب من
المتقدمين.
***
(م ٨٣) العصمة من الصغائر:
قال في المواقف: (وأما الصغائر عمدًا فجوزه الجمهور إلا الجبائي، وأما
سهوًا فهو جائز اتفاقًا إلا الصغائر الحسية كسرقة حبة أو لقمة. وقال الجاحظ:
يجوز بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه وقد تبعه فيه كثير من المتأخرين وله نقول)
قال الشارح: (أي نحن الأشاعرة) .
***
(م ٨٤) العصمة قبل النبوة:
قال في المواقف بعد إيراد ما ذكر كله: (هذا كله بعد الوحي وأما قبله
فقال الجمهور: لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة؛ إذ لا دلالة للمعجزة عليه ولا حكم
للعقل. وقال أكثر المعتزلة: تمتنع الكبيرة وإن تاب منها؛ لأنه يوجب النفرة،
وهي تمنع عن اتباعه، فتفوت مصلحة البعثة. ومنهم من منع عما ينفر مطلقًا كعهر
الأمهات والفجور في الآباء والصغائر الحسية دون غيرها. وقالت الروافض: لا
يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة قبل الوحي، فكيف بعد الوحي؟) اهـ.
وقول الروافض هذا هو الذي اعتمده المتأخرون من أهل السنة، بل منع
بعضهم وقوع المكروه منهم إلا على سبيل التشريع.
***
(م ٨٥) رَأْيُنا [١] : إنما ذكرنا هذا الاختلاف في العصمة ليعرف من يطلع
عليه من دعاة النصارى ومجادليهم أن المسلمين لم يتكلفوا القول بعصمة الأنبياء
تكلفًا لإثبات قدرتهم على إنجاء الناس من العذاب في اليوم الآخر كما يزعمون، وإنما
يتبعون في ذلك - كغيره - ما يظهر لهم من الأدلة العقلية والسمعية أي: أدلة الوحي
وإنما نقلنا عبارة كتاب المواقف الذي هو أعظم كتب الكلام عندنا لئلا يظن قليل
الاطلاع من المسلمين أن الأقوال التي أوردناها في الخلاف هي أقوال شاذة أو مسندة
لغير أصحابها سهوًا أو جهلاً لا سيما اعتماد متأخري أهل السنة قول الرافضة.
والذي نراه أنه يصح الاستدلال بالعقل على عصمة الأنبياء عليهم السلام، ولا
يستلزم ذلك القول بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين ولا سلب الاختيار عن الله تعالى.
وكذلك يستنبط من كثير من الآيات القرآنية ما يدل على نزاهتهم وكونهم قدوة في
الخير والفضائل، ولكن ليس فيها نص صريح على العصمة من الذنوب مطلقًا؛
ولذلك قال صاحب المواقف بعد إيراد تلك الآيات: إنها ليست بالقوية فيما هو محل
النزاع وهو الكبيرة سهوًا والصغيرة عمدًا. وفي الكتاب والسنة إسناد الذنوب إلى
بعض الأنبياء عليهم السلام، وما جاز على بعضهم جاز على الآخرين. والعلماء
يؤوِّلون ذلك. وقصارى هذا كله وجوب الاعتماد على الدليل العقلي والتوفيق بينه
وبين ما ورد من إسناد الذنوب إليهم، فاطلب ذلك من الدرس الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))