للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


علم تلامذة العرب وبلاغتهم

جاء في أمالي أبي علي القالي ما نصه: حدثنا أبو بكر بن دريد، قال: حدثنا
أبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانذاني، عن التوزي، عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان لرجل من مقاول حمير ابنان يقال لأحدهما عمرو،
وللآخر ربيعة، وكانا قد برعا في الأدب والعلم، فلما بلغ الشيخ أقصى عمره
وأشفى على الفناء دعاهما ليبلو عقولهما ويعرف مبلغ علمهما، فلما حضرا قال
لعمرو وكان الأكبر: أخبرني عن أحب الرجال إليك، وأكرمهم عليك. قال: السيد
الجواد، القليل الأنداد، الماجد الأجداد، الراسي الأوتاد، الرفيع العماد، العظيم
الرماد، الكثير الحُساد، الباسل الذواد، الصادر الوراد. قال: ما تقول يا
ربيعة؟ قال: ما أحسن ما وصف، وغيره أحب إلي منه. قال: ومن يكون بعد
هذا؟ قال: السيد الكريم، المناع للحريم، المفضال الحليم، القمقام [١] الزعيم، الذي
إن هم فعل، وإن سئل بذل.
قال: أخبرني يا عمرو بأبغض الرجال إليك. قال: البرم اللئيم [٢] ،
المستخذي الخصيم [٣] ، المبطان النهيم [٤] العيي البكيم [٥] ، الذي إن سئل منع،
وإن هُدِّد خضع، وإن طلب جشع [٦] . قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره
أبغض إلي منه. قال: ومن هو؟ قال: النموم الكذوب، الفاحش الغضوب،
الرغيب عند الطعام [٧] ، الجبان عند الصِّدام. قال: أخبرني يا عمرو، أي النساء
أحب إليك؟ قال: الهركولة اللفاء [٨] ، الممكورة الجيداء [٩] ، التي يشفي السقيم
كلامها، ويبرئ الوصب إلمامها [١٠] ، التي إن أحسنت إليها شكرت، وإن أسأت إليها
صبرت، وإن استعتبتها أعتبت [١١] ، الفاترة الطرف، الطفلة الكف [١٢] ، العميمة
الردف. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعت فأحسن وغيرها أحب إلي منها. قال:
ومن هي؟ قال: الفتانة العينين، الأسيلة الخدين، الكاعب الثديين، الرداح
الوركين [١٣] ، الشاكرة للقليل، المساعدة للحليل، الرخيمة الكلام، الجماء العظام،
الكريمة الأخوال والأعمام، العذبة اللثام.
قال: فأي النساء أبغض إليك يا عمرو؟ قال: القتاتة [١٤] الكذوب، الظاهرة
العيوب، الطوافة الهبوب [١٥] ، العبسة القطوب، السبابة الوثوب، التي إن ائتمنها
زوجها خانته، وإن لان لها أهانته، وإن أرضاها أغضبته، وإن أطاعها عصته.
قال: ما تقول ياربيعة؟ قال: بئس والله المرأة ذكر وغيرها أبغض إلي منها.
قال: وأيتهن التي هي أبغض إليك من هذه؟ قال: السليطة اللسان، المؤذية
للجيران، الناطقة بالبهتان، التي وجهها عابس، وزوجها من خيرها آيس، التي
إن عاتبها زوجها وترته [١٦] ، وإن ناطقها انتهرته. قال ربيعة: وغيرها أبغض إلي
منها. قال ومن هي؟ قال: التي شقي صاحبها، وخزي خاطبها، وافتتضح أقاربها،
قال: ومن صاحبها، قال صاحبها مثلها في خصالها كلها، لا تصلح إلا له ولا يصلح
إلا لها، قال: فصفه لى؟ قال: الكفور غير الشكور، اللئيم الفخور، العبوس الكالح،
الحرون الجامح، الراضي بالهوان، المختال المنان، الضعيف الجنان، الجعد
البنان [١٧] ، القؤول غير الفعول، الملوم غير الوصول، الذي لا يرع عن المحارم،
ولا يرتدع عن المظالم. قال: فأخبرني يا عمرو أي الخيل أحب إليك عند
الشدائد، إذا التقى الأقران للتجالد؟ قال: الجواد الأنيق، الحصان العتيق، الكفيت
العريق [١٨] ، الشديد الوثيق، الذي يفوت إذا هرب، ويلحق إذا طلب. قال: نعم
الفرس والله نعت فما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أحب إليَّ منه. قال: وما هو؟ قال
الحصان الجواد، السَّلس القياد، الشهم الفؤاد، الصبور إذا سرى، السابق إذا
جرى، قال فأي الخيل أبغض إليك يا عمرو؟ قال: الجموح الطموح، النكول
الأنوح [١٩] الصؤول الضعيف، الملول العفيف، الذي إن جاريته سبقته، وإن
طالبته أدركته، قال: فما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أبغض إليَّ منه، قال وما هو؟
قال: البطيء الثقيل، الحرون الكليل، الذي إن ضربته قمص [٢٠] ، وإن دنوت منه
شمس، يدركه الطالب، ويقطع بالصاحب، قال ربيعة: وغيره أبغض إليّ منه،
قال: وما هو؟ قال: الجموح الخبوط [٢١] ، الركوض الخروط [٢٢] ، الشموس
الضروط، القطوف [٢٣] في الصعود والهبوط، الذي لا يسلم الصاحب - لعلها
بالصاحب -. ولا ينجو من الطالب.
قال: أخبرني يا عمرو أي العيش ألذ؟ قال: عيش في كرامة، ونعيم
وسلامة، واغتباق مدامة. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: ونعم العيش والله وصف
وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: عيش في أمن ونعيم، وعز وغنى عميم،
في ظل نجاح، وسلامة مساء وصباح، وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال:
غنى دائم، وعيش سالم، وظل ناعم.
قال: فما أحب السيوف إليك يا عمرو؟ قال: الصقيل الحسام، الناثر
المجذام، الماضي السطام [٢٤] ، المرهف الصمصام، الذي إذا هززته لم يكب،
وإذا ضربت به لم ينب.
قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعم السيف نعت وغيره أحب إلي منه. قال:
وما هو؟ قال: الحسام القاطع، ذو الرونق اللامع، الظمآن الجائع، الذي إذا
هززته هتك، وإذا ضربت به بتك، قال: فما أبغض السيوف إليك يا عمرو؟ قال:
القطار الكهام الذي إذا ضُرِبَ به لم يقطع، وإن ذبح به لم ينخع [٢٧] . قال: ما تقول
يا ربيعة؟ قال: بئس السيف والله ذكر، وغيره أبغض إلي منه. قال: وما هو؟
قال: الطبع الددان [٢٨] ، المعضد [٢٩] المهان.
قال: فأخبرني يا عمرو أي الرماح أحب إليك عند المراس، إذا اعتكر
البأس، واشتجر الدعاس [٣٠] ؟ قال: أحبها إلي المارن المثقف [٣١] ، المقوم
المخطف [٣٢] ، الذي إذا هززته لم يتعطف، وإذا طعنت به لم يتقصف. قال: ما
تقول يا ربيعة؟ قال: نعم الرمح نعت وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال:
الذابل العسال، المقوم النسال [٣٣] ، الماضي إذا هززته، النافذ إذا همزته [٣٤] .
قال: فأخبرني يا عمرو عن أبغض الرماح إليك. قال: الأعصل [٣٥] عند الطعان،
المثلم السنان، الذي إذا هززته انعطف، وإذا طعنت به انقصف. قال: ما تقول يا
ربيعة؟ قال: بئس الرمح ذكر وغيره أبغض إلي منه. قال: ما هو؟ قال:
الضعيف المهز. اليابس الكز [٣٦] . الذي إذا أكرهته انحطم، وإذا طعنت به انقصم.
قال: انصرفا، الآن طاب لي الموت اهـ.
فهل نجد في تلامذتنا أو شيوخنا من يلم بمثل هذه المعاني أو يحسن مثل هذا
الوصف؟ ! أنى ولا لغة لنا ولا علم إلا بلغة حية مرتقية فليرجع القارئ إلى ما جاء
في نبذة التفسير من الحكم بأننا أجهل الجاهلية الأولى.