للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حرية الجرائد والشعور العام بالفضيلة في مصر

أكبر النعم التي مُنحتَها مصر في عهد الاحتلال الأمن العام وحرية المطبوعات.
ومن العجائب أن المتمتعين بهذه الحرية يشكون في هذه الأيام منها، ويطلب
بعضهم أن تقيد الحكومة هذه الحرية المطلقة كمن يطلب احتكار الهواء الذي يحيا به
الناس ليعطوا منه بقدر ما يراه المحتكر لازمًا لحياتهم. هذا ما يظهر بادئ الرأي
من الذين يردون على طالبي التقييد، على أنه لم يطلبه أحد ونحن نذكر الحقيقة مع
بيان السبب.
كثرت الجرائد الأسبوعية في مصر، وأكثر أهلها ليسوا من أهل الصحافة فلا
استعداد عندهم لجعلها حاجة من حاجات البلاد؛ ولذلك أشرعوا لهم طريقًا جديدًا
وهو التنديد أو التعريض بمساوئ الأشخاص وقد وجدوا في هذا الطريق لماجًا
وعوارض يرضون بها قومهم، فمن الناس من يفتدي عرضه منهم بقليل من المال أو
العروض، ومنهم من يغريهم بذم عدو له بأجر معلوم، وقد أطمعتهم معاملة هؤلاء
السفهاء بالعظماء والفضلاء فلم يسلم منهم صنف من الأصناف، وقد أكثروا في هاتين
السنتين من الخوض (بالمعية السنية ... ) والإرجاف بأعمالها.
هذا كله، والرأي العام ساكت عنهم، فما الذي أقام عليهم القيامة في هذه الأيام
وأفاض التبرم والشكوى على جميع الألسنة والأقلام؟ الجواب عن هذا السؤال
يعرفه كل من يقرأ الجرائد المصرية وإنما نذكره صريحًا؛ لأنه من المبشرات
بدخولنا في الحياة الاجتماعية بعد أن كانت حياتنا فردية أحادية، وليكون مسجلاً في
تاريخ مصر الأدبي.
وهو أن جريدة (حمارة منيتي) الهزلية التي تكتب غالبًا باللغة العامية المصرية
قد طعنت من عهد قريب بفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية فهاج
الرأي العام في مصر للطعن بهذا الإمام العظيم، وذهب الأستاذ الأكبر شيخ الجامع
الأزهر بنفسه إلى محكمة مصر الكبرى وطلب من رئيس النيابة فيها محاكمة صاحب
جريدة الحمار بعد أن طلب مقابلة النائب العمومي فقيل له أنه مسافر. وتقدمت
المحاضر العمومية من العلماء وطلاب الأزهر ومن الأهالي في القاهرة ومن بعض
البلاد في خارجها يطلبون محاكمته. وانطلقت أقلام الكتاب والشعراء في ذم صاحب
الحمارة وأجمعت الجرائد على ذمه وانبرى بعض الكتاب لإحصاء عيوب جريدته منذ
أنشئت، وذكروا منها إهانة القرآن وإفساد الآداب وإفساد اللغة والطعن بالسلطان
والأمير وغير ذلك. وقد قال بعض الأدباء: إن بعض هذه الذنوب أكبر عقوبة من
الطعن بمفتي الديار المصرية فلماذا سكت الناس عنها إلى الآن؟
وقد ذكر صاحب الحمارة نفسه هذا المعنى في مقدمة العدد الأول من السنة
الخامسة ونصه: (قل لي بحقك ما الذي جناه صاحب الحمارة اليوم حتى قامت
عليه هذه القيامة، وما هي بالله تلك الخطيئة التي ارتكبها واستحق عليها الملام،
واتجهت إليه أسنة الأقلام. وانصبت عليه كل هذه السهام؟ فلم يبق في أرض
مصر جريدة ولا مجلة ولا قصيدة إلا وقد حملت عليه، بعد أن كانت في العادة
تحمل منه لا عليه، ولا يبقى شاعر، ولا كاتب واعر، إلا وحرك في ذكراه شفتيه،
كأنهم يريدون ابتلاعه بكل ما لديه) إلخ.
هذا هو السبب في تألم الرأي العام من إطلاق المطبوعات، وما من شيء في
هذا الوجود إلا وله سيئات وحسنات، وهو دليل على أن الأمة المصرية قد دب
فيها الشعور بشئون الحياة الاجتماعية، وصار الرأي العام يعرف لذي الفضل فضله.
ولذا طالب بعض أعضاء الجمعية العمومية الرغبة إلى الحكومة بالاتفاق مع وكلاء
الدول لوضع قانون عام عادل لفوضوية المطبوعات ليأمن كل إنسان على عرضه.
واستحسن رأيه هذا بعض أصحاب الصحف الكبيرة وعده الآخرون وسيلة لتقييد
حرية الصحافة والمطبوعات فأنكروه، ولا يزالون يتناقشون فيه وهم متفقون على أن
حرية الطباعة والصحافة حسناتها أكثر من سيئاتها بأضعاف مضاعفة.
وإذا رجعنا إلى مثلنا الأول نقول: إن هذه الحرية كالهواء الذي هو شرط
للحياة فإذا مر في بعض الأيام على جيفة فحمل إلينا ريحها أو هب شديدًا فأثار الغبار
في وجوهنا فلا شك أننا نبادر إلى ذمه والشكوى منه، ولكننا لا نطلب انقطاعه وإنما
نطلب منع الجيف من طريقه وإزالة الغبار برش الأرض بالماء فلا خلاف إذن بين
الناس في وجوب بقاء هذه الحرية.
أما إزالة هذه الجيف فأمثل طرقها تصدي النيابة العمومية لمحاكمة أصحابها،
فيجب عليها أن تحاكم كل من ينتهك حرمات الآداب وينال من أعراض الناس، وإن
لم يطلب ذلك ممن يطعن فيه. إن لم تقم النيابة بهذه الخدمة للأمة فيجب على الناس
أن يحاكموا من يطعن فيهم إلا عثرة الكريم فإنها تقال شرعًا وأدبًا. والامتناع عن
محاكمتهم توهمًا أن ذلك يعلي شأنهم أو يخفض شأن من يحاكمهم خطأ كبير؛ فإن
الحدود والعقوبات لم تسن في الشرائع الإلهية ولم توضع في القوانين البشرية إلا
لهؤلاء المعتدين {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:٢١) .
وأما صاحب الحمارة فقد حاكمته النيابة العمومية فحكم عليه بالسجن مدة ثلاثة
أشهر وبالنفقات، ولم يدخل المفتي في الدعوى مطلقًا ولا طلب حقًّا مدنيًّا. وكان في
الجرائد التي حملت على صاحب الحمارة جريدة طلبت من المفتي العفو عنه، ولو كان
هو الذي طلب ذلك تائبًا لأجيب طلبه قطعًا فإن الأستاذ سليم القلب واسع الحلم لا
يحب أن ينتقم لنفسه، على أن ما كتبته الحمارة كان أكبر خدمة له؛ لأنه أظهر له
مكانة عالية في نفوس خواص الأمة وعوامها لا يدانيه فيها أحد مع العلم القطعي
لكل أحد بأنه بريء من سبب نهاق الحمارة براءة عائشة من إفك المنافقين،
وصاحب الحمارة نفسه يعتقد ذلك أيضًا، لأن هذيانه لم يكن مبنيًّا إلا على الاستنباط
من صورة اخترعها بعض المفسدين.
أما العبرة التي نقصدها من إيراد هذه المسألة فهي إزالة شبهة علقت في أفهام
أكثر الناس فكانت أضر اعتقاد تقلدوه، وهي أن من يشتغل بالعلوم الحقيقية ويتخلق
بالأخلاق الفاضلة والسجايا الكاملة كالصدق والمروءة وعلو الهمة وبذل المعروف
والسعي في خير الناس ومنفعتهم لا ينجح في عمله ولا يعرف له أحد فضله
ويستدلون بأمثال يضربونها قد اشتبه عليهم حقها بباطلها، وهذا المثل الحق الذي
يدحضها وهو أن الشيخ محمد عبده سلك هذه الطريقة فحل من نفوس الأمة محلاً
عليًّا ونال فيها اسمًا سميًّا ما زاحمه فيه عالم ولا أمير، ولا شاركه فيه غني ولا
وزير، والعاقبة كما قال الله تعالى للمتقين.