للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القرآن والكتب المنزلة

المقالة الثالثة للقس إسحاق طيلر نشرت في جريدة سنت جمس في ١٣ مايو
سنة ١٨٨٨.
إن المسلمين قد آمنوا بالمسيح وصدقوا ببعثته وهو عندهم معدود في أولي
العزم من رسل الله إلى خلقه، فهم عندنا مسيحيون نصلي لهم كل يوم أحد ونسأل الله
أن يهديهم وإيانا إلى الحق وطريق مستقيم. ولا منافاة عندهم بين الاعتقاد بالقرآن
وأنه كلام الله وتنزَّل من عنده، وبين الاعتقاد بسائر الكتب السماوية وأنها بوحي من
الله وإلهام. بل يعرف من صريح كلام المسلمين أن اعتقادهم بالكتب السماوية إنما
ساقه إلى قلوبهم الاعتقاد بالقرآن فهم في اعتقادهم بها يمتثلون أمرًا من أوامره
ويجيبون داعيًا من دواعيه.
وليس في المسلمين من يدعي أن القرآن يكذب شيئًا من الكتب الإلهية ولا في
إمكان مسلم أن يدعي ذلك لما يشهد به القرآن من أنه مهيمن على ما بين يديه من
الكتب يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، مصدق لما معهم من
الحق ولكنهم يقولون: إن القرآن خاتمة الكتب كما أن من أنزل عليه (صلى الله
عليه وسلم) خاتمة الأنبياء، ولا تجد مسلمًا إلا يؤمن بالتوارة والإنجيل
والزبور والقرآن، فكل صحيفة من الكتب الإلهية ثبت مجيئها على لسان
نبي صادق فهي عندهم كلام الله المنزه عن الخطأ والزلل.
وما صح نقله عن عيسى عليه السلام فهو حق واجب التصديق، وكثيرًا ما
ينقلون عن نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما يعرف بالأحاديث شيئًا من أقوال المسيح
ونصائحه وأحواله ويتلقونها بالقبول، غير أن المعروف عندنا أن الأناجيل
المشهورة لم تكتب في عهد المسيح عليه السلام كما كتب القرآن وغيره في حياة
من أنزل عليهم فلا لوم على المسلم إذا طلب التثبت وتحقيق السند لصحة النقل كما يكون منه ذلك فيما ينقل عن نبيه (صلى الله عليه وسلم) من الأحاديث؛ لأن
عروض الشبهة في نقل من تتحقق عصمته أمر طبيعي عند عموم البشر.
قال لي أحد المسلمين: إن القرآن يشهد بأن الله آتى عيسى عليه السلام
الإنجيل وجعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، وما نعرفه من الكتب الإلهية نقبله
ولا ننكر شيئًا منه، وإن كنا قد نختلف معكم على تفسيره وتأويله كما اختلف
الأحزاب من بينكم، وعندنا أن كتابنا ونبينا صلى الله عليه وسلم قد بشر بهما أنبياؤكم
من قبل كما تقولون في المسيح عليه السلام، وكما لم يقدح إنكار اليهود لعيسى في
اصطفاء الله له، كذلك لا يقدح إنكار من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في
ثبوت رسالته. ولقد أرشدني الاطلاع على مذاهب المسلمين في التعليم إلى أنهم لا
يأبون عن تسليم أدلة القسيس بالي التي ذكرها في كتابه المسمى ببراهين دين المسيح
غير أنهم يتخذون منها حججًا قويمة على أن دينهم الحق. مثلاً يعدون من بينات
دينهم ودلائل أنه الحق سرعة انتشاره واستقبال القلوب وجهته على نحو غريب
عزيز المثال، ثم إشراق نور الإخلاص من عقائد الذين اتبعوه كما يرشد إليه أدنى
الفكر في أحوالهم من ثباتهم معه في ساعات العسرة ومصابرتهم في الشدائد وازدياد
إيمانهم في الضراء واستقامة سيرهم في السراء.
ومنها ما بهر العقول من الحكم الدقيقة التي برعت بها أحكام القرآن وانطباقها
مجيب على ما تقتضيه طبيعة الإنسان الدينية (أي: من حيث يطلب دينًا) وتأثيرها
الغريب في قلوب الآخذين بها والقائمين على سبيلها واحتباسها لنفوسهم على
الكمالات الإنسانية، واجتذابها لهممهم عن الانبعاث إلى ما تدعو إليه الرعونة البدنية،
فهي تلبسهم ثوب الوقار والحشمة في النعماء، وتشعرهم شعار التسليم والاصطبار في
البأساء. وفي الحق أن لهم أن يسألونا: هل يمكن لأميّ مثل محمد (صلى الله عليه
وسلم) أن يأتي بحقائق زكية نقية عليَّة وأحكام تسطو بسلطانها على النفوس كالتي جاء
بها القرآن بدون أن يكون ذلك بوحي من الله وإمداد منه؟
أما ما يقال من أن القرآن لم يذكر فيه معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم سوى
القرآن نفسه؛ فعلى فرض أن لا يصح شيء مما نقل في كتب الأحاديث من المعجزات
مع أنها أشبه بالأناجيل عندنا يجاب عنه بأن هذا لا يقدح في رسالته، بل هو أوضح
دليل على صدقه في دعواه؛ إذ لو كان ملبسًا أو مفتريًا (والعياذ بالله) لما أعوزه
التمويه ببعض الغرائب المخترعة ليشبه على أصحابه ويحمل الناس على الإعجاب
بغرائبه. وقد رأينا أن المسيح عليه السلام كان يوبخ اليهود على مطالبتهم له
بالمعجزات، والذي يظهر لنا أنه لولا قساوة قلوبهم وعنادهم لما عوّل في دعواه
عليها.
على أن الأعاجيب التي رويت عن المسيح عليه السلام أصبحت في هذه
الأيام مما يعد عقبة في طريق الاعتقاد بدينه فكثير من الناس يحسبون الدين سهل
القبول لولاها. فعدول محمد (صلى الله عليه وسلم) في إثبات نبوته عن سبيل
الغرائب واكتفاؤه من المعجزة بكتابه وصدق أنبائه، والبراهين العقلية التي تحدق
إليها البصائر السامية، كل ذلك آيات بينات في صدور الذين أُوتوا العلم على صدقه،
ولا إشكال فيه بل هو عين ما يطلبه المسلمون.
ثم إن المسلمين لا يقفون في إثبات دينهم عند نهاية هذا الحد ولكنهم يذهبون إلى
أن لهم في الكتب السابقة أدلة بينة على صدق كتابهم ونبيهم، صلى الله عليه وسلم
وهم على يقين أن الأنبياء السابقين (عليهم الصلاة والسلام) قد توالت أنباؤهم على
التبشير بنبيهم كما نقول في عيسى عليه السلام، وما يذهب إليه المسيحيون في تأويل
بعض الأخبار المأثورة عن الأنبياء أو الأصفياء الأولين يخالفهم فيه المسلمون إلى
تأويل أفضل لهم، وقد نجد التأويل الثاني ألصق بعبارة النبأ، فإن لم يكن فإنا نرى
التأويلين في كفتين متعادلتين، وإنما يرجح كُلاًّ إِلفُ صاحبه ومَيله، ولذلك أمثال
كثيرة يطول سردها ويسهل على الطالب إيجادها.
أذكر ما نبهني إليه أحد أصدقائي المسلمين من معنى العددين المذكورين في
آخر كتاب دانيال النبي عليه السلام وهما عدد ١٢٩٠ وعدد ١٣٣٥، فبعد أن بين
بتاريخ انقطاع الذبيحة اليومية من يوم بني منسه ملك اليهود مذابح للأصنام في هيكل
القدس، وفسر الصنم المصوغ الذي نصبه الملك في القدس بالرجس المخرب، وعبر
عن الخراب بتسخير الأوديين لأورشليم فأراني كيف أن أحد العددين المذكورين يأتي
بنا إلى زمان الهجرة النبوية، وأن الثاني ينتهي بنا إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان
عندما أتم المسلمون فتوحاتهم في سورية ومصر وفارس وأفريقيا، وكيف قطعت
مصالحة الحسن بن عليّ دابر الشقاق بين الأمة، وسكن المسلمون الأرض آمنين
مطمئنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولست أحكم بصحة التأويل ولا عدمها،
ولكن أقول: إنه ليس بأقل جودة من بعض ما أول به قوم آخرون.
وأهم ما نقصد الآن أن يعرف النصارى عندنا في إنكلترا كيف يستدل
المحمديون بأنباء كتب اليهود والنصارى على إثبات دينهم وتحقيق يقينهم.
بقي شيء يشتد الإنكار فيه منا على المسلمين وهو اعتقادهم بجنة جسمانية فيها
من الحور العين ما تشتهيه نفوس المؤمنين، على أني أقول: وما إنكارنا ونحن
نرى في كتاب نشيد الأناشيد المنسوب إلى سليمان بن داود (عليه السلام) عبارات إن حُملت على ظاهرها كانت أدخل في الجسمانية وعالم المادة من كل ما ينسب إلى
القرآن غير إننا لمحنا من درس فصول ذلك الكتاب في ترجمته المشهورة أن تلك
كنايات عن محبة المسيح لأمته، ثم إننا نرى ذِكرًا صريحًا للجنة الجسمانية في
مكاشفات يوحنا المعدودة عندنا خاتمة الأناجيل، فإنه يذكر وصف أورشليم الجديدة وهي الجنة ومساحتها الدقيقة وحدودها وما فيها من أبواب من لؤلؤ وأزقة من ذهب
وجدران من جوهر ويفيض فيما رواه ذلك مما لم يأت القرآن عليه. وإن لنا
عبارة تألفها نفوسنا ونترنم بها في عبادتنا مع الافتخار إذ نقول: (أورشليم
المذهبة المباركة باللبن والعسل) وليس يخطئ قائل لنا: إن نغمات المظفرين
وأغاني المخلفين التي نجدها في مكاشفات يوحنا تذكّرنا بأن غاية المسيحي من إيمانه
وأمله المطلوب من عبادته أن يصل إلى جنة نعيمه فيها أن يأكل ويشرب ويسكر
ويغني كما نرى من عمله في هذه الدنيا أيام الأعياد المشهورة، على أننا نأول ذلك كله
ونصرفه عن ظاهره، ونحمل كل لفظ وجد لمعنى محسوس على سر معقول.
وإن العرفاء من المسلمين يعتقدون بأن لهم نعيمًا روحانيًّا يتعالى إلى غير
النهاية عن النعيم الجسداني، ولسنا نكابر كما يكابر القسيس (مكول) ونحكم بأن
المسلم لا مطمح له في أخراه إلا الأكل والشرب وقضاء شهوات أُخَرَ، وقد ذكر في
القرآن في سورة القيامة من جزاء المؤمنين أن تكون وجوههم يوم القيامة ناضرة إلى
ربها ناظرة، وفي الأحاديث عندهم ما يدل على ذلك ففيها عن نبيهم (صلى الله
عليه وسلم) ما معناه أن أعظم فوز يفوز به العبد في الآخرة هو لقاء ربه في الغدوّ
والآصال وهو نعيم يفوق كل نعيم كما يفوق البحر قطرات العرق، وفي حديث آخر
أن المؤمنين يرون ربهم كما يرون القمر ليلة البدر. وفي آخر ما يشبه المعروف
عندنا (إن الله قد أعد للمؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر) .
وإن في عقائد المحمديين أن رضوان الله أكبر من كل نعيم، فإن وافقنا المسلم
على أن جنة جسدانية لا تليق أن تكون جزاء المؤمن في الآخرة؛ أفلا يجوز له أن
يُؤول ما ورد في كتابه من ذلك كما وردت عبارة النشيد وعبارات المكاشفات
والتأويل عليه أسهل منه علينا فإن عنده في كتابه ما يشير إلى أن بعض ما نص الله
لهم من الكتاب لا يؤخذ على ظاهره، وله في السنة ما معناه: ليس في الجنة شيء مما
في الدنيا إلا الأسماء لنا نحن. فلم يذكر لنا في المكاشفات ما يسوغ التأويل أو يشير
إلى أن ما جاء فيها من الأوصاف ضرب من التمثيل؛ لأن صاحب الكتاب يصرح
لنا بأن ما فيه من الأقوال حق لا ريبة فيه كما هو مذكور، فللمحمديين حق إن
طلبوا الجنة الروحانية واللذائذ السامية العقلية، وهم مؤمنون بكتابهم، ويرون أن هذا
المطلب عليهم أيسر منه على كثير من غيرهم، وإني أحسب من الظلم الفاحش أنَّا لا
نسوغ للمسلمين سلوك طريق من التفسير لم نزل نسلكه في إيضاح غوامض
كتابنا المقدس.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسحاق طيلر