للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاجتماع الثاني - الداء أو الفتور العام

في مكة المكرمة يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة سنة ١٣١٦ في صباح
اليوم المذكور انعقد الاجتماع وبعد قراءة ضبط الجلسة الأولى افتتح الكلام (الأستاذ
الرئيس) فقال: إنا نجد الباحثين في الحالة النازلة بالمسلمين يشبهونها بالمرض
فيطلقون عليها اسم الداء مجردًا أو مع وصفه بالدفين أو المزمن أو العضال، ولعل
مأخذ ذلك ما ورد في الأثر وألفته الأسماع من تشبيه المسلمين بالجسد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ويلوح لي أن إطلاق الفتور العام
أليق بأن يكون عنوانًا لهذا البحث لتعلق الحالة النازلة بالأدبيات أكثر منها بالماديات،
ولأن آخر ما فيها ضعف الحس فيناسبه التعبير عنه بالفتور.
إن هذا الفتور في الحقيقة شامل لجميع أعضاء الجسم الإسلامي فيناسب أن
يوصف بالعام، وربما يتوقف الفكر في الوهلة الأولى عن الحكم بأن الفتور عام
يشمل المسلمين كافة، ولكن بعد التدقيق والاستقراء نجده شاملاً للجميع في مشارق
الأرض ومغاربها لا يسلم منه إلا أفراد شاذة.
فيا أيها السادة، ما هو سبب ملازمة الفتور منذ قرون للمسلمين؟ من أي قوم
كانوا، وأينما وجدوا، وكيفما كانت شئونهم الدينية أو السياسية أو الأفرادية أو
المعاشية حتى إننا لا نكاد نجد إقليمين متجاورين أو ناحيتين في إقليم أو قريتين في
ناحية أو بيتين في قرية، أهل أحدهما مسلمون وأهل الآخر غير مسلمين إلا ونجد
المسلمين أقل من جيرانهم نشاطًا وانتظامًا في جميع شئونهم الحيوية الذاتية
والعمومية، كذلك نجدهم أقل إتقانًا من نظرائهم في كل فن وصنعة مع أننا نرى أكثر
المسلمين في الحواضر وجميعهم في البوادي محافظين على تميزهم عن غيرهم
من جيرانهم ومخالطيهم في أمهات المزايا الأخلاقية مثل الأمانة والشجاعة
والسخاء.
فما هو والحالة هذه سبب شمول هذا الفتور وملازمته لجامعة هذا الدين
كملازمة العلة للمعلول بحيث يقال: أينما وجدت الإسلامية وجد هذا الداء حتى توهم
كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان. هذا هو المشكل العظيم الذي يجب
على جمعيتنا البحث فيه أولاً بحث تدقيق واستقراء عسى أن نهتدي إلى جرثومة
الداء عن يقين فنسعى في مقاومتها حتى إذا ارتفعت العلة برئ العليل إن شاء الله
تعالى.
قال (الفاضل الشامي) : إني أوافق الأستاذ الرئيس على تعريفه ووصفه
الحالة النازلة بالفتور، ولا أعلم ما يعارض كون هذا الفتور عامًّا محيطًا بجميع
المسلمين.
قال (الصاحب الهندي) : إني وإن كنت أقل الإخوان فضيلة ولكنني جوّال،
وقد خبرت البلاد وأحوال العباد، ولا شك عندي في أن هذا الفتور عامّ وإن كان لا
يظهر في بعض المواقع التي ليس فيها غير المسلمين كقلب جزيرة العرب وبعض
جهات إفريقيا، ولا يظهر أيضًا في بعض مواقع أخرى مجاورو المسلمين فيها
ومخالطوهم من أهل النِّحل الوثنية الغريبة الوضع المتناهية في الشدة كبقايا الصابئة
حول دجلة الذين يضيعون كثيرًا من أوقاتهم منغمسين في الماء تعبدًا، وكالكونغو من
الزنوج، وكالبوذية من الهنود المعتقدين أن كل مصائبهم حتى الموت الطبيعي من
تأثيرات أعمال السحرة عندهم، فإن أمثال هؤلاء أكثر فتورًا من المسلمين على أن
ذلك لا يرفع صفة الفتور وعموميته عن المسلمين.
فقال (الأستاذ الرئيس) : إن الصاحب الهندي مصيب في تفصيله وتحريره،
ولذلك رجعت عن قولي بأن المسلمين أحط من غيرهم مطلقًا إلى الحكم بأنهم أحط
من غيرهم ما عدا النحل المتشددة في التدين.
قال (الحافظ البصري) : يلوح لي أنه يلزم استثناء الدهريين والطبيعيين
وأمثالهم ممن لا دين لهم؛ لأنهم لا بد أن يكونوا على غير نظام ولا ناموس في
أخلاقهم معذبين منغصين في حياتهم منحطين عن أهل الأديان كما يعترف بذلك
الطبيعيون أنفسهم فيقولون عن أنفسهم: إنهم أشقى الناس في الحياة الدنيا.
فأجابه (الصاحب الهندي) : إني كنت أيضًا أظن أنه يوجد في البشر أفراد
ممن لا دين لهم، وإن من كانوا كذلك لا خلاق لهم، ثم إن اختباري الطويل قد برهن
لي على أن الدين بمعناه العام وهو إدراك النفس وجود قوة غالبة تتصرف بالكائنات،
والخضوع لهذه القوة على وجه يقوم في الفكر هو أمر فطريٌّ في البشر، وإن قولهم:
فلان دهري أو طبيعي هو صفة لمن يتوهم أن تلك القوة هي الدهر أو الطبيعة فيدين
لما يتوهم، فثبت عندي ما يقرره الأخلاقيون من أنه لا يصح وصف صنف من
الناس بأنهم لا دين لهم مطلقًا، بل كل إنسان يدين بدين إما صحيح أو فاسد عن
أصل صحيح، وإما باطل أو فاسد عن أصل باطل، والفاسدان يكون فسادهما إما
بنقصان، أو بزيادة، أو بتخليط، فهذه أقسام ثمانية.
فالدين الصحيح كافل بالنظام والنجاح في الحال والسعادة والفلاح في المآل،
والباطل والفاسدان بنقصان قد يكون أصحابهما على نظام ونجاح في الحياة على
مراتب مختلفة، وأما الفاسدان بزيادة أو بتخليط فمهلكة محضة، ثم أقول: بما كان
تقريري هذا غريبًا في بابه فألتمس أن لا يقبل ولا يرد إلا بعد التدقيق والتطبيق؛
لأنه أصل مهم لمسألة الفتور العام المستولي على المسلمين.
(قال الرئيس الأستاذ) : إني أجلكم أيها السادة الأفاضل عن لزوم تعريفكم
آداب البحث والمناظرة، غير أني أنبه فكركم لأمر لا بد أن يكون في نفوسكم جميعًا،
أو تحبوا أن يصرَّح به ألا وهو عدم الإصرار على الرأي الذاتي وعدم الانتصار له،
واعتبار أن ما يقوله ويبديه كل منا إن هو إلا خاطر سنح له فربما كان صوابًا أو
خطأً، وربما كان مغايرًا لما هو نفسه عليه اعتقادًا وعملاً، وهو إنما يورده في
الظاهر معتمدًا عليه، وفي الحقيقة مستشكلاً أو مستثبتًا أو مستطلعًا رأي غيره، فلا
أحد منا ملزم برأي يبديه ولا هو بملوم عليه، وله أن يعدل أو يرجع عنه إلى ضده؛
لأننا إنما نحن باحثون لا متناظرون، فإذا أعجبنا رأي المتكلم منا أثناء خطابه
إعجابًا قويًّا فلا بأس أن نجهر بلفظ (مرحى) [١] تأييدًا لإصابة حكمه وإشعارًا
باستحسانه، فلنمض في بحثنا عن أسباب الفتور العام على هذا النسق.
قال (الفاضل الشامي) : إني أرى منشأ هذا الفتور هو بعض القواعد
الاعتقادية والأخلاقية، مثل العقيدة الجبرية التي من بعد كل تعديل فيها جعلت الأمة
جبرية باطنًا قدرية ظاهرًا (مرحى) ومثل الحث على الزهد في الدنيا والقناعة
باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية كحب المجد والرياسة والتباعد
عن الزينة والمفاخر والإقدام على عظائم الأمور، وكالترغيب في أن يعيش المسلم
كميت قبل أن يموت، وكفى بهذه الأصول مفترات مخدرات مثبطات معطلات لا
يرتضيها عقل ولم يأت بها شرع، ولمثلها نفى عثمان بن عفان رضي الله عنه أبا ذر
الغفاري إلى الربذة.
فأجابه (البليغ القدسي) : إن هذه الأصول الجبرية والتزهيدية الممتزجة
بعقائد الأمة وما هو أشد منها تعطيلاً للأخذ بالأسباب، ولنشأة الحياة موجودة في
جميع الديانات؛ لتعدل من جهة شره الطبيعة البشرية في طلب الغايات، وتدفعها إلى
التوسط في الأمور، ولتكون من جهة أخرى تسلية للعاجزين وتنفيسًا عن المقهورين
البائسين وتوسلاً إلى حصول التساوي بين الأغنياء والفقراء في مظاهر النعيم.
ألا يرى إجماع كل الأديان على اعتقاد القدر خيره وشره من الله تعالى، أو
خيره منه وشره من النفس أو من الشيطان، ومع ذلك ليس في البشر من ينسب أمرًا
إلى القدر إلا عند الجهل بسببه سترًا لجهله، أو عند العجز عن نيل الخير أو دفع الشر
سترًا لعجزه، وحيث غلب أخيرًا على المسلمين جهل أسباب المسببات الكونية
والعجز عن كل عمل التجأوا إلى القدر والزهد تمويهًا لا تديُّنًا. وهذا التبتل
والخروج عن المال من أعظم القربات في النصرانية، فهل كان قصد شارع
الرهبانية أن ينقرض الناس كافة بعد جيل واحد، أم كان قصده أن يشرعها على أن
لا يتلبس بها إلا القليل النزر؟ كلا لا يُعقل في هذا المقام إلا التعميم، وينتج من ذلك
أنه لا يصح اعتبار هذه الأصول الجبرية والتزهيدية سببًا للفتور، بل هي سبب
لاعتدال النشاط وسيره سير انتظام ورسوخ.
وفي النظر إلى المشاق والعظائم التي اقتحمها الصحابة والخلفاء الراشدون
رضي الله عنهم لنيل الغنى والرياسة والفخار مع الأجر والثواب أقوى برهان مع أن
الأمة إذ ذاك كانت زاهدة فعلاً لا كالزهد الذي ندعيه الآن كذبًا ورياءً
(مرحى) .
وإذا تتبعنا كل ما ورد في الإسلامية حاثًّا على الزهد نجده موجهًا إلى الترغيب
في الإيثار العام؛ أي: بتحويل المسلم ثمرة سعيه للمنفعة العمومية دون خصوص
نفسه، حتى إن كل ما ورد في الحث على الجهاد في سبيل الله مراد به سعي المؤمن
بكل الوسائل حتى ببذل حياته لإعزاز كلمة الله وإقامة دينه، لا في خصوصية محاربة
الكفار كما تتوهم العامة، كما أن المراد من محاربة الكفار هو من جهة: إعزاز
الجامعة الإسلامية، ومن أخرى: خدمة الجامعة الإنسانية من حيث إلجاء الكفار إلى
مشاركة المسلمين في سعادة الدارين؛ لأن للأمم المترقية علمًا ولاية طبيعية على
الأمم المنحطة؛ فيجب عليها إنسانية أن تهديها إلى الخير ولو كرهًا باسم الدين أو
السياسة.
ثم قال: أما أنا فيخيل إليّ أن سبب الفتور هو تحويل نوع السياسة الإسلامية
حيث كانت نيابية اشتراكية؛ أي: (ديمقراطية) تمامًا، فصارت بعد الراشدين بسبب
تمادي المحاربات الداخلية ملكية مقيدة بقواعد الشرع الأساسية، ثم صارت أشبه
بالمطلقة. وقد نشأ هذا التحول من أن قواعد الشرع كانت في الأول غير مدونة ولا
محررة بسبب اشتغال الصحابة المؤسسين رضي الله عنهم بالفتوحات وتفرقهم في
البلاد، فظهر في أمر ضبطها خلافات ومباينات بين العلماء، وتحكمت فيها آراء
الدخلاء، فرجحوا الأخذ بما يلائم بقايا نزعاتهم الوثنية (وليتهم لم يدنسوا الإسلام
بالدخول فيه) فاتخذ العمال السياسيون -ولا سيما المتطرفون منهم- هذا التخالف في
الأحكام وسيلة للانتقام والاستقلال السياسي، فنشأ عن ذلك أن تفرقت المملكة
الإسلامية إلى طوائف متباينة مذهبًا، متعادية سياسة، متكافحة على الدوام.
وهكذا خرج الدين من حضانة أهله وتفرقت كلمة الأمة فطمع بها أعداؤها
وصارت معرضة للمحاربات الداخلية والخارجية معًا، لا تصادف سوى فترات قليلة
تترقى فيها العلوم والحضارة على حسبها , وقد أثر استمرار الأمة في هذه الحروب أن صارت باعتبار الأكثرية أمة جندية صنعةً وأخلاقًا، بعيدة عن الفنون والصنائع
والكسب بالوجوه الطبيعية، ثم بسبب فقدان القواد والمعدات لم يبق مجال للحروب
الرابحة فاقتصرت الأمة على المدافعات خصوصًا منذ قرنين إلى الآن؛ أي: منذ
صارت الجندية عند غيرنا صنعة علمية مفقودة عندنا، فصرنا نستعمل بأسنا بيننا
فنعيش بالتغالب والاحتيال لا بالتعاون والتبادل، وهذا شأن يميت الانتباه والنشاط
ويولد الخمول والفتور (مرحي) .
فابتدر (الحكيم التونسي) وأجابه: إن غيرنا من الأقوام -كجرمانيا مثلا- وُجِدُوا في حكومات مطلقة، وفي اختلافات مذهبية، وفي انقسامات إلى طوائف
سياسية، وفي حروب مستمرة، ولم يشملهم الفتور بوجه عام فلا بد للفتور في
المسلمين من سبب آخر.
ثم قال: وفيما أتصور أن بلاءنا من تأصل الجهل في غالب أمرائنا المترفين
الأخسرين أعمالاً الذين ضلوا وأضلونا سواء السبيل وهم يحسبون أنهم يُحْسنون
صنعًا، حتى بلغ جهل هؤلاء دركةً أسفل من جهل العجماوات التي لها طبائع
ونواميس، فمنها التي تحمي ذمارها وتمنع عن حدودها وتدافع عما استُحفظت عليه،
وهؤلاء ليس لهم طبائع ونواميس فيخرّبون بيوتهم بأيديهم وهم لا يشعرون، ومنهم
الذين ضلوا على علم وهم الذين يشكون ويبكون حتى يظن أنهم مغلوبون على أمرهم
ويتشدقون بالإصلاح السياسي مع أنهم - وايم الحق - يقولون بأفواههم ما ليس في
قلوبهم، ويظهرون الرغبة في الإصلاح ويبطنون الإصرار والعناد على ما هم عليه
من إفساد دينهم ودنياهم وهدم مباني نجدهم وإذلال أنفسهم والمسلمين. وهذا داء عياء
لا يُرجى منه الشفاء؛ لأنه داء الغرور لا يقر صاحبه لفاضل بفضيلة، ولا يجاري
حازمًا في مضمار، وقد سرى من الأمراء إلى العلماء ثم إلى سائر الطبقات.
فأجاب (المولى الرومي) إن إلقاء التبعة على الأمراء خاصة غير سديد؛
خصوصًا لأن أمراءنا إن هم إلا لفيف منا، فهم أمثالنا من كل وجه، وقد قيل: كما
تكونوا يولَّى عليكم، فلو لم نكن نحن مرضى لم يكن أمراؤنا مدنفين.
وعندي أن البلية هي فقدنا الحرية، وما أدرانا ما الحرية؟ هي ما حرمنا معناه
حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه. وقد عرف الحرية من عَرفَها بأن
يكون الإنسان مختارًا في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم. ومن فروع الحرية
تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنّهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة
بالحق وبذل النصيحة، ومنها حرية التعليم وحرية الخطابة والمطبوعات وحرية
المباحثات العلمية.
ومنها الأمن على الدين والأرواح والأمن على الشرف والأعراض والأمن على
العلم واستثماره، فالحرية هي روح الدين، وينسب إلى حسان بن ثابت الشاعر
الصحابي رضي الله عنه:
وما الدين إلا أن تقام شرائع ... وتؤمن سبل بيننا وهضاب
فلينظر كيف حصر هذا الصحابي الدين في إقامة الشرع والأمن. هذا، ولا
شك أن الحرية أعز شيء على الإنسان بعد حياته، وأن بفقدانها تفقد الآمال وتبطل
الأعمال وتموت النفوس وتتعطل الشرائع وتختل القوانين. وقد كان فينا راعي
الخرفان حرًّا لا يعرف للملك شأنًا، يخاطب أمير المؤمنين بيا عمر ويا عثمان.
فصرنا ربما نقتل الطفل في حِجْر أمه ونلزمها السكوت فتسكت، ولا تجسر أن
تزعج سمعنا ببكائها عليه. وكان الجنديُّ الفرد يؤمّن جيش العدو فلا يخْفر له عهد،
فصرنا نمنع الجيش العظيم من صلاة الجمعة والعيدين ونستهين بدينه، لا لحاجة غير
الفخفخة الباطلة (مرحى) .
فلمثل هذا الحال لا غرو أن تسأم الأمة حياتها فيستولي عليها الفتور، وقد
كرت القرون وتوالت البطون ونحن على ذلك عاكفون فتأصّل فينا فقد الآمال،
وترك الأعمال، والبعد عن الجد والارتياح إلى الكسل والهزل، والانغماس في اللهو
تسكينًا لآلام أسرِ النفس، والإخلاد إلى الخمول والتسفل طلبًا لراحة الفكر المضغوط
عليه من كل جانب. إلى أن صرنا ننفر من كل الماديات والجديات حتى لا نطيق
مطالعة الكتب النافعة، ولا الإصغاء إلى النصيحة الواضحة؛ لأن ذلك يذكرنا
بمفقودنا العزيز فتتألم أرواحنا وتكاد تزهق إذا لم نلجأ إلى التناسي بالمُلْهيات،
والخرافات المروّحات، وهكذا ضعف إحساسنا وماتت غيرتنا، وصرنا نغضب
ونحقد على من يذكرنا بالواجبات التي تقتضيها الحياة الطيبة لعجزنا عن القيام بها
عجزًا واقعيًّا لا طبيعيًّا.
هذا ونعترف بأن فينا بعض أقوام قد ألفوا من ألوف سنين الاستعباد والاستبداد
والذل والهوان فصار الانحطاط طبعًا لهم تؤلمهم مفارقته، وهذا هو السبب في أن
السواد الأعظم من الهنود والمصريين والتونسيين صاروا بعد أن نالوا رغم أنوفهم
الأمن على الأنفس والأموال، والحرية في الآراء والأعمال. لا يَرْثُونَ ولا
يتوجعون لحالة المسلمين في غير بلادهم بل ينظرون للناقمين على أمرائهم المسلمين
شزرًا، وربما يعتبرون طالبي الإصلاح من المارقين من الدين.
كأن مجرد كون الأمير مسلمًا يغني عن كل شيء حتى عن العدل، وكأن طاعته
واجبة على المسلمين وإن كان يخرب بلادهم ويقتل أولادهم ويقودهم ليسلمهم
لحكومات أجنبية، كما جرى ذلك قبلاً معهم. والحاصل أن فقدنا الحرية هو سبب
الفتور والتقاعس عن كل صعب وميسور.
أجاب (المجتهد التبريزي) : إن هذا الحال ليس بعام مع أن الفتور لم يزل
في ازدياد واستحكام فلا بد لذلك من سبب آخر.
ثم قال: ويلوح لي أن انحطاطنا من أنفسنا؛ إذ أننا كنا خير أمة أخرجت للناس
نعبد الله وحده؛ أي: نخضع ونتذلل له فقط، ونطيع من أطاعه ما دام مطيعًا له
نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، أَمْرُنا شُورَى بيننا، نتعاون على البر والتقوى
ولا نتعاون على الإثم والعدوان. فتركنا ذلك كله ما صعب منه وما هان. وقد يظن أن
أصعب هذه الأمور النهي عن المنكر؛ مع أن إزالة المنكر في شرعنا تكون بالفعل فإن
لم يمكن فبالقول، فإن لم يكن فبالقلب، وهذه الدرجة الثالثة هي الإعراض عن الخائن
والفاسق والنفور منه وإبطان بغضه في الله.
ومن علائم ذلك تجنب مجاملته ومعاملته. ولا شك أن إقامة هذا الواجب الديني
كافٍ للردع ولا يتصور العجز عنه قط. قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْض} (البقرة: ٢٥١) .
فهذا هو سبب استرسال الأمة في عبادة الأمراء والأهواء، والأوهام وفي طاعة
العصاة اختيارًا وترك التناصح، والركون إلى الفساق، والإذعان للاستبداد،
والتخاذل في الخير والشر. قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) وعنه
صلى الله عليه وسلم [٢] (لتأمُرُنَّ بالمعروف وَلّتنْهن عن المنكرِ أوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ الله
عليكم شِرَارَكم فليسومونكم سوء العذاب) إلى غير ذلك من الآيات البينات
والأحاديث المنذرات القاضيات بالخذلان على تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فهذا هو السبب الناشئ عنه الفتور.
((يتبع بمقال تالٍ))