للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


(الدرس ٣٤)

الأجوبة عن شبهات العصمة
(المسألة ٩٠) معصية آدم عليه السلام:
علمنا أن مذهب جمهور أهل السنة أن الأنبياء معصومون بعد النبوة لا قبلها،
فلا ترد معصية آدم على هذا المذهب؛ لأنه لم يكن نبيًّا حين عصى ربه، بل لم يكن
في طور التكليف إلا بالنسبة إلى النهي عن الأكل من الشجرة. ولا ترد أيضًا على
ما اختاره المتأخرون من عصمتهم قبل النبوة (وإن كان يلزم منه أن هناك أحكامًا قبل
التشريع والوحي) ؛ لأن الدليل العقلي الذي يمكن أن تثبت به هذه العصمة لا يأتي في
مسألة آدم وهو أن يكون من اختياره للنبوة معروفًا في قومه بمكارم الأخلاق وأحاسن
الأفعال؛ لأن سيّئ السيرة ممقوت منبوذ تحفظ مساويه وجرائمه فتحول دول قبول
دعوته وكون هذا لا يجيء في مسألة آدم بديهيٌّ لا يحتاج إلى بيان. فإن قيل إن الدليل
يرشد إلى أن فطرة الأنبياء زاكية ونفوسهم عالية فهم ينفرون من المعاصي والجرائم
بوازع نفسي راسخ فيهم - كما علم من إثبات النبوة والوحي - فكيف يقترف آدم تلك
المعصية مع كونه خلق في أحسن تقويم وأكمل صفة؟
والجواب: إن صاحب النفس الزاكية تربأ به نفسه عن تعمد إتيان المنكر
وارتكاب الفاحشة التي يعرف مضرتها وسوء عاقبتها، وآدم لم يتعمد المخالفة بدليل
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (طه:
١١٥) ولم يكن عالمًا بوجوه مضرتها لتنفر فطرته منها، بل كان يعتقد صدق
الشيطان الذي وسوس إليه بأنها شجرة الخلد وملك لا يبلى فهذا الاعتقاد دفعه عند
نسيان النهي إلى الأكل؛ ليكون مظهرًا لهذا النوع الذي هو أبوه، وليعلم مَن بعده مِن
ولده غير المعصومين ما يجب على من عصى ربه من التوبة والإنابة إلى
الله تعالى.
على أن في قصة آدم وجهًا في التأويل، بأنها وردت مورد التمثيل، لإظهار
طبيعة النشأة البشرية في أطوارها التدريجية، فالجنة والعيش الرغد فيها مثل لما
كان عليه النوع البشري في طور السذاجة الأولى، وعصيان آدم وهبوطه هو وزوجه
من الجنة مثل لدخول البشر في طور المخالفات التي تجر عليهم الشقاء والبلاء.
والتوبة والمغفرة مثل لطور الكمال الكسبي والارتقاء العلمي والعملي (سيأتي
إيضاح ذلك في باب التفسير المقتبس من مفتي الديار المصرية) .
***
(م٩١) قصة داود عليه السلام
وُلع بالإسرائيليات بعض الذين اشتغلوا بتفسير القرآن بالمأثور، فألصقوا
بالقرآن ما تلقفوه من أهل الكتاب لأدنى مناسبة، ولولا ذلك لما كنا محتاجين إلى
الجواب عن هذه الشبهة بعد ما قررنا في الدرس الماضي الفرق بين ذنوب الأنبياء
وبين المعاصي الحقيقية التي عصمهم الله تعالى منها.
القرآن مهيمن على الكتب السماوية؛ لأنه ثابت بالتواتر دونها، فما أثبته فهو
الثابت وما نفاه فهو المنفي. وقصة داود مع الخصم ليس فيها بحسب نصّ القرآن
إلا أن اجتهاد داود اختلف في قضيتين متشابهتين فعرفه الله خطأ الاجتهاد الأول بما
عداه إليه في الثاني؛ لأن خطأ الأنبياء في اجتهادهم لا يُقرُّون عليه كما تقدم في
الدرس الماضي عن البيضاوي. هذا إذا كان لقصة المرأة أصل، وإلا فإن قضية
الخصمين اللذين تحاكما إلى داود عليه السلام ليست نصًّا في أنه أخطأ في قضية، أو
تزوج امرأة بعد ما عرّض زوجها للقتل أو غير ذلك مما يزعمون.
القضية أن أحد الخصمين له تسع وتسعون نعجة وللآخر نعجة واحدة فطلب
الأول أن يضمها إلى نعاجه، وحاجّ صاحبها في بيان أن ذلك هو الصواب والأولى
فعزّه وغلبه في الخطاب والكلام فحكم داود بأن صاحب التسع والتسعين ظالم وأن من
شأن الخلطاء البغي، ولكن خَتْمَ النبأ بقوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (ص: ٢٤-٢٥) يدل على أن وراء القضية أو فيها هفوة لداود.
ولقائل أن يقول: يحتمل أن تلك الهفوة في نفس الحكم؛ فإنه لا يبعد أن يكون
الصواب ضم النعجة إلى القطيع لتحفظ وتأتي بالنسل، وأن بقاءها عند صاحبها
مَضيعة لها فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية كما ورد في الحديث الشريف.
واعتراف المدعي بأن خصمه عزّه في الخطاب دليل على أنه لم يطلبها إلا بحق
وبعِوض كثمن المثل أو منفعة أخرى من اللبن أو النسل. وفي البيضاوي وغيره
احتمال آخر في التأويل مروي، وهو أن الذين تسوروا المحراب كانوا يقصدون
اغتيال داود في يوم انفراده فوجدوا عنده قومًا فتصنّعوا بالتحاكم، فعلم غرضهم
وقصد أن ينتقم منهم ثم لم يجد مسوغًا شرعيًّا فعاتب نفسه، وظن أن الله تعالى أراد
ابتلاءه واختباره بذلك فاستفغر ربه مما هم به؛ لأن ذلك ذنب بالنسبة إلى مقامه،
وإذا كان لقصة امرأة أوريا أصل فيجب أن يكون مطابقًا لقضية الخصمين؛ بأن يكون
داود اعتقد أن امرأة جميلة في بيت جندي فقير خلف أسفار لا تسلم من تطلع السفهاء
وتعرّض الفجار، وأن الطريقة المثلى لصيانتها هي أن تكون في بيت النبوة والملك
وأنه كلم زوجها في أن يكفلها فأقنعه وعزّه في الخطاب؛ لأن هذا هو الصواب.
وإنما استغفر داود من ذلك؛ لأنه ظن أن اجتهاده في أمر المرأة مشوبٌ بشيء من ميل
النفس إلى كفالتها وأن هذا الميل هو الذي رجَّح في نفسه الرأي الأول بدليل أنه ظهر
له خلافه في قضية تشابه الأولى، ومثل هذا يعده هؤلاء الكمَلَة ذنبًا، وإن لم يكن فيه
مخالفة لأمر الله تعالى وحيد عن شريعته.
ومن تأمل ما تقدم القصة وما تأخر عنها من الثناء على داود عليه السلام علم
أن القرآن يتنزه في حكمته وبلاغته أن يكون ذكر الفاحشة فيه محتفًّا بهذا الثناء
والإطراء. ويقال: إن تنازل الرجل عن امرأته لآخر ليتزوج بها كان مشروعًا
عندهم. وقد آثر الأنصار المهاجرين (رضي الله عنهم أجمعين) بزوجاتهم فكان
من عنده امرأتان يطلق إحداهما ليتزوج بها أخوه المهاجر.
وفي القصة روايات كثيرة في كل فرع من فروعها لا يعبأ بها أهل العقل ولا
أهل النقل. فإن قبلنا منها شيئًا فلنقبل ما يوافق قواعدنا الثابتة، كرواية أن أوريا لم
يكن متزوجًا بالمرأة وإنما كان خاطبًا، ورواية نهي الإمام علي كرم الله وجهه عن
التحديث بالقصة على ما يرويه القصاص، ووعيده من خالف بجلد مائة وستين جلدة
وذلك حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام.
(م ٩٢) الشبهة الأولى على سليمان عليه السلام
حاسب الله القصاص فلقد شوهوا كتب التفسير بقصصهم، استعرض
سليمان نبيّ الله وملك بني إسرائيل الخيل وهو نعم العبد {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ} (ص: ٣١-٣٢) المعقود
بنواصي الخيل لا عن هوى نفسي ولكن {عَن ذِكْرِ رَبِّي} (ص: ٣٢) وَوحيه
الذي أمر برباط الخيل للدفاع عن الحق.
فما زالت تعرض {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: ٣٢) فقال {رُدُّوهَا
عَلَيّ} (ص: ٣٣) لأراها مقبلة ومدبرة أو لأختبر حالها. فقد قيل: إنه كان
عالمًا بها وبأمراضها أو لأتمتع بمسح سوقها وأعناقها، فردُّوها عليه {فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} (ص: ٣٣) كما هو شأن محبّي الخيل في كل جيل وزمان.
فأي هذيان أم أية شبهة في هذه الآيات على أن سليمان عليه السلام ترك صلاة
العصر شغلاً بالخيل حتى غربت الشمس، وأنه انتقم منها بقطع سوقها وأعناقها -
ولو كان المسح هو القطع لكان قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم} (المائدة: ٦) بمعنى: اقطعوها - وأن قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} (ص: ٣٣) خطاب
للملائكة الموكلين بالشمس يأمرهم بردها بعد غروبها ليصليَ العصر؟ وأيّ حاجة
لتطويل الفقهاء البحث في هذه الصلاة هل هي أداء أم قضاء؟ ولكن هذا قضاء
الله في قوم اشتغلوا عن لباب العلم بلَوْك القشور، ألا إلى الله تصير الأمور.
***
(م٩٣) الشبهة الثانية على سليمان عليه السلام
رووا في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ
أَنَابَ} (ص: ٣٤) روايات مضطربة متعارضة، فإذا حكَّمنا علم الرواية فإننا
نقبل رواية البخاري ومن وافقه، وملخصها: أن سليمان قال: لأطوفنَّ الليلة
على أربعين امرأة (من نسائه) تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل
إن شاء الله: فلم تحمل منهن إلا واحدة جاءت بشق رجل فألقي على كرسيه عرضًا
عليه، وسمي جسدًا؛ لأنه ليس إنسانًا كاملاً، فكان ذلك فتونًا واختبارًا من الله تعالى
له فأناب إليه وتاب أن يجزم بشيء دون الاستثناء بمشيئته؛ فأين التماثيل وعبادة
الأصنام ووثبان الشياطين على كرسيّ الملك وما أشبه هذا الهذيان الذي رووه؟
***
(م٩٤) الشبهة على عصمة يوسف عليه السلام
إن ما جرى ليوسف مع امرأة العزيز كان قبل نبوته، وليس فيما قصه الله
تعالى علينا إلا أنه: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّه} (يوسف: ٢٤) فيجوز
أن يكون جواب لولا محذوفًا دلّ عليه ما قبله فتكون الآية ناطقة بأنه لم يهمّ، وبعض
النحاة جوَّز تقديم جوابها؛ أي: إنه لولا رؤية برهان رّبه لهمَّ بها لتوفّر
الدواعي ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء فلم يهمّ
ولو فرضنا أن الجواب (لغَشْيِهَا) وأنَّ الهمّ وقع منه لكان لنا أن نقول: إن الأنبياء
ليسوا معصومين من حديث النفس ومراودة الشهوة البشرية، ولكنهم معصومون من
طاعتها والانقياد إليها. ولو لم توجد عندهم داعية إلى خطأ لما كانوا مأجورين على
ترك المنكرات والمعاصي؛ لأنهم يكونون مجبورين على تركها طبعًا. والعنين لا
يؤجر ويثاب على ترك الزنا؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعية
ليس عملاً، وأما الترك مع الداعية فهو كفّ النفس عما تتشوّف إليه فهو عمل نفسي.
***
(م ٩٥) الشبهة على إخوة يوسف
لا شك أن إخوة يوسف قد ارتكبوا المعصية المشتملة على عدة معاصي،
ولكنهم لم يكونوا أنبياء. وأما ذكر الأسباط، فيمن أوحى الله تعالى إليهم من الأنبياء
فالمراد به (والله أعلم) أنبياء الأسباط وهم فرق بني إسرائيل الاثنى عشر. قال
تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} (الأعراف: ١٦٠) ، وقد بعث الله
في كل أمة من هؤلاء الأسباط أنبياء وأوحى إليهم فعل الخيرات وهداية بني
إسرائيل. وما رواه ابن جرير الطبري من استغفار يعقوب لهم في وقت السحر
وتأمين يوسف عليهما السلام، وأن الله استجاب له على رأس العشرين سنة من دعائه
وأوحى إليه أنه غفر لهم (وعقد مواثيقهم على النبوة) فهو غير صحيح هذا هو
الحق في هذه القصص، وقد انكشفت به الشبه، فينبغي ذأن يلقن للمسلمين في الدروس
ويعلم للأطفال لكيلا يغتر أحد بما في كتب العهد العتيق التى يسمونها التوراة وبما
حشي في كتب قصص الأنبياء وبعض التفاسير من الإسرائيليات، {وَاللَّهُ
يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) .
((يتبع بمقال تالٍ))