للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإسلام في إنكلترا
رأينا في كراسة سياسية تسمى (ديبلوماتيك فلي شينس) أي: المنشورات
السياسية لشهري نوفمبر وديسمبر سنة ١٨٨٧ مقالة بإمضاء المستر جورج كراشي
أحد أعضاء البرلمنت الإنكليزي أخذنا منه ما يأتى تعريبه وهو:
الإسلام دين لا يبتدع أحكامًا، ولا يخترع للوحي أساسًا جديدًا، ولا يوصي بغير
معهود ليس له كهنوت خاص ولا رئاسة كنسية، ولكنه يسن للملة شرعًا وللدولة قانونًا
يكون تنفيذهما باسم الدين. هذا ما قاله (داود أرقوهارت) في المجلد الأول من
كتابه المسمى بروح الشرق في الصفحة الخامسة والعشرين من مقدمة طبعته الثانية
سنة ١٨٣٩.
إن حقيقة الإسلام التي أماط الحجاب عنها أولاً من اشتهر بروح الشرق،
وأبرزها للمرتابين من الغربيين، لم تزل تزداد وضوحًا منذ كشفها حتى تجلت اليوم
بنفسها على وجه لم يبق معه للأكاذيب المفتراة على الإسلام سبيل لسلطتها على
النفوس فيما بعد ذلك التجلي الباهر كان فيما ألقاه القسيس (إسحاق طيلر) من
خطابته في المحفل الديني، صدق أرقوهارت في دعواه أن حقيقة الإسلام أمر مسلّم
عند كثيرين، فالنبلاء الكرام (بالكراد) و. مبري و. راولنسون و. لايارد
و. رولاند و. ستانلي أوف ألدرلي و. ديشانسكي وقوم آخرون من قبيلهم شاركوه
في البصيرة وصدقوه فيما قرره. وكل مسافر عاشر الأقوام المحمدية وأنس إليهم،
فله عنهم خبر محمود ومع ذلك كله نرى الجمهور في إنكلترا لم تزل آراؤهم في
مواقفها الأولى.
كانت الحقيقة في احتجاب عن أنظار العامة لأن أكثر أهالي إنكلترا
مصروفون إلى النصرانية عن النظر فيما سواها، وتوارثوا فيها عصبية تظهر لهم
في شعار الدين أما الآن وقد قام قسيس محترم من البيعة الإنكليزية يصدع بهذا الحق،
فلا بد أن يصغي إلى قوله ويذعن له ملايين ممن كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم
ويعرضون عن مقالات قوم يعدونهم سياحين أو متفلسفين.
هذه الحقائق مما لا يقبل الإنكار، وإنما كان الإشكال في طريق اجتلاب
الخواطر إليها حتى تجتليها، وحيث زال هذا الإشكال بهمة أحد القسيسين المحترمين
فالغاية المطلوبة أصبحت مما لا يشك فيه معشر الذين قبلوا نصيحة داود أرقومارت.
ليس السعي لبيان أن الإسلام مما يمكن احتماله فقط، بل لم نزل نطلب أن يكون من
النفوس في مكانة الاحترام، وقد استيقنّا الآن أن رجاءنا المُرْجَأ قد تحقق ومدّعانا
الحق قد سلم به.
لا ينبغي أن يظن أننا نحسب دين الإسلام مخالفًا للدين المسيحي، فذلك مما لم
يخطر لنا ببال قط، وقصارى ما نقول: إن الغاية من كل دين إنما هو العمل الصالح
والمسلك المستقيم، ولسنا نحكم على أبناء جنسنا إلا كما قال المسيح عليه السلام
(بثمراتهم تعرفونهم) وحيث استمسكنا بهذا الأصل فلنا أن نجهر بأن المعتقدين بالدين
المسيحي في هذه الأوقات ليسوا بمنزلة يفضلون بها على المسلمين.
هذا الحق ننادي به ونحن على يقين منه ونحثّ الذين يقولون إنا نصارى. على
أن يضعوا الإسلام في منزلة تنطبق على الواقع ونفس الأمر، فإن استطاعوا أن
يدحضوا حجتنا بالبراهين الساطعة فليعملوا على مكانتهم، وإن لم يفعلوا ولن يفعلوا
فليكن نظرهم إلى الإسلام على حد ما بيّنا مناسبًا للحقيقة الواقعية، ولينصفوا الإسلام
ذلك الدين القيم الذي هو نظام لمعيشة قسم عظيم من أمم كريمة كثيرة العدد من النوع
البشري.
مما يهم الشعب الإنكليزي خاصة أن يتخلصوا من أطوار التعصب التي لا
تنحصر آثارها في إلحاق العار بهم فقط بل تتعدى إلى جلب المضرة عليهم أيضًا؛ لأن
لحضرة الملكة ملايين من رعاياها كلهم مسلمون ونحن في مقام على أحد جانبيه
دولة الروسية، وعلى الجانب الآخر الدولة العثمانية ولا يمكننا أن نزعم عدم المبالاة
بعقابيل الحروب التي قامت على سوقها بين هاتين الدولتين من أمد بعيد، وإلى الآن
لم تضع أوزارها وضعًا حقيقيًّا. إن الدولة الروس لا يمكنها أن تكون في حرب
مستمرة، لكنها لا تراعي ما تكلف به من شروط السلام ولا يزال وكلاؤها الخفيّون
مشتغلين بالعمل (كذا) وما من زمان إلا والحذر فيه من الروسية ضروري للباب
العالي وهذا مجموع أحوال توجب على دولة الإنكليز أن تسأل نفسها آنًا بعد آن: هل لنا أن نقاوم الروسية أو ندعها وشأنها؟
كل وجه من وجوه السياسة يتعلق بسلامة الدولة الإنكليزية وبقائها، يرشدنا
إلى الاعتراف بلزوم عقد معاهدة مع الدولة التي لم تضرنا قط، وفتحت فُرَصَها
لتجارتنا، وأبواب بلادها لأشغالنا، أما الصيحة الفارغة بأن الروسية دولة نصرانية،
والدولة العثمانية دولة محمدية فقد كان لها إلى الآن أسوأ الأثر في إعماء عقولنا
وخطلنا في سياستنا، فلنأخذ من الآن بأصل صحيح وهو أن نعلق الحكم بالأعمال لا
بالعقائد، فإنه ليس خاصًا بالأفراد، بل كما يكون بها يكون بالأقوام والدول أيضًا،
فإن قابلنا بين روسيتنا النصرانية وبين العثمانية المحمدية لم يشك في أن المعاهدة
مع العثمانية هي التي تظهر أفضليتها عند الحاكمين بالحق أجمعين، وإذا ذكرنا
المعاهدة العثمانية فلا نستعمل اللفظ فيها بمعناه السياسي أو تركيبه الديبلوماسي، ولا
ينبغي أن يفهم ذلك من كلامنا، إنما المعاهدة التي كنا نجتهد في إعدادها لسنين طويلة
كانت معاهدة مبنية على شروط مساواة مؤسسة على الاحترام من الجانبين، وظهر لنا
في الأزمان الماضية أن إكمال مثل تلك المعاهدة من المحال. أما الآن فلا نقول: إنها
من قبيل الممكن الذاتي فقط بل صارت من قبيل ما بالقوة القريبة من الفعل.