للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قانون التعليم الرسمي والجمعية العمومية

كان كل مصري يسيء الظن بكل عمل يجري على أيدي المحتلين فما زالت
الأعمال تنقض وتبرم وتمحو وتثبت حتى اعترف الأكثرون بأكثر نتائج الأعمال
الإصلاحية النافعة في الري والمالية والإدارة والسياسة، ولولا أن أكثر الناس أو كل
الناس غير راضين عن سير نظارة المعارف لاعترفوا أجمعين بحسن نية المحتلين
وإرادتهم الخير للبلاد وأهلها، وليس هذا مقام بسط هذه المسألة ولكن هذه الكلمة
تمهيد لما يأتي وهو أن سخط الناس من سير نظارة المعارف في التعليم جعل شأنًا
عظيمًا لاقتراح الوجيه الفاضل أمين بك الشمسي على الجمعية العمومية أن تطلب
من الحكومة عرض قوانين التعليم (بروجرامات) ومنشورات المعارف على
مجلس شورى القوانين ومجلس النظار.
وتوقع الناس أن تقبل الحكومة هذا الاقتراح بمقدار ما لهم من حسن الظن فيها.
وما كانوا ينتظرون أن يدافع صاحب السعادة ناظر المعارف الجمعية العمومية
ويناضلها نضال بني ثعل؛ ليدفع عن نظارته هذا الاقتراح؛ لأنهم يعتقدون أنه
مستريح من أعمال المعارف لثقته بأمين أسرارها العامل الدائب المستر دنلوب
وسائر الموظفين تحت يده، ولأن من شأن الواثق بحسن عمل ينسب إليه حقيقة أو
عرفًا بالذات أو بالواسطة أن يحب عرضه على الناس ويسعى في توجيه أنظارهم إليه
لا سيما إذا كان الغرض من العمل المنفعة العامة وكان نقد الناظرين فيه من أسباب
ترقيه وإتقانه كنظام التعليم ولكن الناظر جاء بما لم يكن في الحسبان ولا نخوض في
تعليل ذلك مع الخائضين، ولكننا نبحث في دفاعه وتعليله في مناقشة الجمعية العمومية
في جلسة ٦ ذي الحجة سنة ١٣١٩ ونختصر ما نورده من المناقشات غالبًا ونحذف
الألقاب الرسمية فنقول:
عندما عرض اقتراح الشمسي بيَّن الناظر للجمعية كيفية وضع قوانين التعليم
(البروجرامات) وهو أن نظار المدارس ومفتشيها يقدمون في آخر كل سنة مكتبية
تقارير بما يرونه في نظام التعليم فتبحث فيه اللجنة العلمية المؤلفة من كبارهم، وتقدم
ما تقر عليه منه إلى مجلس المعارف الأعلى فيبحث فيه ويقدم ما يراه منه إلى
مجلس النظار (قال) : (والذي يتقرر يصدر الأمر بإجرائه) .
فقال مفتي الديار المصرية: الذي يلاحظه الناس هو أن القوانين تعرض
بمقتضى العادة على مجلس النظار ثم ترسل إلى مجلس شورى القوانين، ومن ذلك ما
يكون متعلقًا بوضع مائة قرش غرامة ونحوه. فالقوانين المتعلقة بالأصول العامة
للتربية والتعليم أولى بهذا، وهي لا تخص نظارة المعارف وحدها بل القطر كله،
فيصح للجمعية العمومية أن تطلب ضمانًا زائدًا بالنسبة إلى حالة الأشخاص، فإن
الكثيرين يعتقدون أن تلامذة السنة الثانية في المداس الابتدائية يعلمون بعض العلوم
باللغات الأجنبية فلا يفهمونها طبعًا. ثم إن طرق التهذيب وتربية النفوس هي التي
عليها مدار مستقبل الناشئين ومعرفتهم ما يجب عليهم لمصلحة أنفسهم فمن الضروري
الاعتناء بأمثال هذه المسائل، فلو درس قانون التعليم بمجلس النظار وتحول إلى
مجلس الشورى لكان ذلك أكثر ضمانًا، فإن المشتغل بعمل يحكم ذلك العمل عليه
فيضيع منه كثير من الأشياء المتعلقة بالحالة العمومية.
(الناظر) : (البروجرامات) جار نشرها قبل دخول السنة المكتبية، وما
يفهمه البعض من أن السنة الثانية تدرس باللغة الأجنبية فهو خطأ؛ لأن التلميذ يبتدئ
في هذه السنة في تعلم مبادي اللغة الأجنبية فقط، ولم يكن المعلمون وحدهم منفردين
في إبداء رأيهم في سير التعليم بل المشتغل بذلك هم ونظار المدارس والمفتشون
الذين هم من خيار الناس، فعندنا تقارير نظار المدارس وتقارير المفتشين وتقارير
اللجنة العلمية وقرار مجلس المعارف وقرار مجلس النظار فهذه خمس ضمانات) .
أوردنا جواب ناظر المعارف بلفظه كما نشر على ما فيه من ضعف العبارة
لتظهر مغالطته بأتم إيضاح، وهي من وجهين:
أحدهما قوله: إن التلميذ يبتدئ في السنة الثانية بتعلم اللغة الأجنبية؛ أي:
العلوم فلا يتعلم بها شيئًا من العلوم والصواب أنه يبتدئ بتعلمها في السنة الأولى كما
ترى في الصفحة ١٠ من قانون التعليم الابتدائي الصادر بإمضاء الناظر نفسه في
جمادى الثاني سنة ١٣١٩ أي قبل هذه المناقشة بنحو نصف سنة، وكون التلميذ يتعلم
في السنة الأولى وكذا الثانية لغة أجنبية خطأ ظاهر، وإننا لنعرف كثيرين من المعلمين
ونظار المدارس يتبرمون منه ولكنهم يعتقدون أنه أمر مبرم هبط من سماء القوة على
أرض الضعف والاستكانة، ولو علموا أن إبداء رأيهم يصل مجلس الشورى فيطالب
به باسم الأمة لأبدوه آمنين من مغبته؛ لأن كل ما يتوقعونه حينئذ من المؤاخذة على
نكث شيء من فتل ذلك الأمر المبرم يكون معلومًا للناس إذا وقع بعد إطلاع
مجلس الشورى ومجلس النظار وسائر الناس على اقتراح المقترح.
ثم إن تعليم التاريخ الطبيعي (الأحياء) وتقويم البلدان يكون باللغة
الإنكليزية في السنة الثالثة الابتدائية والفرق بينها وبين السنة الثانية ليس كبيرًا
وإنهم ليعلمون أنه لا يمكن أن يحصل التلميذ من اللغة الأجنبية في سنتين ما يتمكن
به من فهم العلوم الطبيعية فيها، ولذلك يعيدون عليه في السنة الثالثة من دروس
تقويم البلدان بالإنكليزية ما كان تعلمه بالعربية، فإن كان الغرض العلم فلا معنى لهذا
الرجوع القهقرى، وإن كان المراد اللغة العربية فالأوقات المخصصة لها ليست
بقليلة كما سنبينه في نبذة أخرى.
والوجه الثاني: (الضمانات الخمس) وهي لا تصلح دفعًا لقول المفتي؛ لأنه
قال: إن عرض نظام التعليم على مجلس الشورى أكثر ضمانًا أي: إن الخمس تكون
به ستًّا فإذا كان الناظر واثقًا من إتقان نظام نظارته ويود أن تزداد إتقانًا وارتقاءً
فماذا يضره لو عرض ذلك على كل من له رأي من الناس وعلم رأيه؟ ثم هو يعلم
أن الحكومة أنشأت مجلس الشورى والجمعية العمومية لتعلم الأمة كيف تحكم
ولتجعل لها رأيًا في قوانينها ونظاماتها لتكون أمة حية كأمم أوربا، حتى إذا ما
استعدت لذلك يكون كل شيء برأي مجلسها النائب عنها، فلماذا يبخل عليها ناظر
المعارف بالبحث في قوانين نظارته ونظام التعليم في مدارسها بواسطة أعضاء
مجلس الشورى الذين هم من خيارها كما أن نظار المدارس ومفتشيها من الخيار كما
قال وزيادة الخُيَّار خير.
ولا يخفى عليه أن الأمة تثق بمجلس الشورى أكثر من ثقتها بأي مجلس من
مجالس الحكومة؛ لأنها تعتقد أن أعضاءه لا سلطان عليهم للسياسة؛ لأن الحكومة
وضعتهم للانتقاد على قوانينها، ولأنهم لا يتوقعون ضرًّا من مخالفة رغائبها.
أما (الضمانات الخمس) فهي في المعنى شيء واحد، وإن شئت قلت: لا
شيء؛ لأن العامل الذي تطلب الأمة الضمان على إتقان عمله هو نظارة المعارف،
فلا يصح أن تكون هي الضامنة لنفسها بأن عملها برأي الموظفين فيها. وذلك
التعدد في الضمانات لا تأثير له؛ لأن آراء المعلمين والناظرين والمفتشين يدغم
بعضها في بعض، ولا يعرض على مجلس النظار إلا ما يراه مجلس المعارف الأعلى
وحده فمجلس النظار لا يبحث في آراء أصحاب (الضمانات) الثلاث
ولا يعرفها. ذلك أن المعلمين يبدون آراءهم لنظار مدارسهم فيختار منها هؤلاء ما
يرضونه أو ما يرضون به، ويقدمونه للجنة العلمية فتمحو منه ما تشاء وتثبت ما
تشاء وترفعه إلى اللجنة العليا فتنسخ منه ما تشاء، وتقدم الباقي إلى مجلس النظار
فيصدق عليه. وإنما يتحقق الضمان من معلمي المدارس ونظارها ومنشئيها إذا
أعطوا حرية بأن يقولوا ما يرونه وكان يعمل بما يقولون أو يبين المانع من العمل
به وأعطوا مع ذلك ضمانًا بأن من رأت اللجنة العلمية أو العالية خطأ رأيه فإنه لا
يؤاخذ سرًّا ولا جهرًا.
ثم إن المفتي احتج على كون تلك (الضمانات) غير كافية بأمرين، أحدهما:
استمرار التغيير في قانون التعليم (البروجرام) حتى في المسائل الكلية. قال:
وهذا يدل على أن معلومات واضعي التقارير غير كافية. وأجاب الناظر عنه بأن
التغيير يدل على دقة البحث. وظاهر أن هذا الجواب غير سديد؛ لأن دقة البحث إذا
سلمت وكان من المسلم أيضًا أن التغيير مستمر حتى المسائل الكلية فذلك دليل على
أن هذه الدقة لم تأت بالفائدة المطلوبة، وما ذلك إلا لأنها غير مبنية على علم
كاف فهي تحتاج إلى الإمداد والمساعدة، وللحكومة مجلس أنشئ للبحث في القوانين
خاصة فيجب أن يكون هو المساعد والممد لنظارة المعارف في تنقيح قوانينها.
والأمر الثاني الذي احتج به المفتي: هو أن لكمال ثقة الناس بسير التعليم أكبر
شأن وأهمه، وإن ذلك يكون باطلاع مجلس النظار ومجلس الشورى على قوانينه،
وأجاب الناظر بإعادة ذكر (الضمانات الخمس) وزاد ضامنًا آخر سماه (الضمانة)
الكبرى وهو طبع تلك القوانين ونشرها. قال: وقلما نرى واحدًا من الناس يقرؤها
فيعرف سير التعليم. وظاهر أن هذا الجواب في غير موضوع الدعوى؛ لأن
الدعوى هي أن ثقة الأمة بالتعليم مطلوبة، وأنها تكون بكذا بدليل طلب نوابها له.
فكان ينبغي أن يكون الجواب إما بالتسليم وإما بمنع الحاجة إلى ثقة الأمة بالتعليم، أو
بمنع أن ثقتها تكون بعرض قوانين التعليم على مجلس النظار ومجلس الشورى، فأما
المنع الأول فيستحيل أن يصدر من ناظر المعارف، وأما الثاني فالفصل فيه للجمعية
العمومية، وقد وافقت أخيرًا عند أخذ الآراء على وجوب عرض قوانين التعليم
ومنشورات المعارف على مجلس الشورى فثبت رأي مفتي الديار المصرية، وأما
الجواب عن (الضمانة) الكبرى، فهو أن عدم رؤية الناظر لقراء قوانين التعليم لا
يدل على عدم القارئين لها فإذا قال: كان يجب أن ينتقدوها إن لم يرتضوها. نقول:
إن العامل لا يتوجه إلى عمل إلا إذا رجا فائدته، ولا يطوف في ذهن أحد أن
انتقاده قانون التعليم يكون سببًا لرجوع نظارة المعارف عن خطئها فيه. وإذا كان قد
ظهر أن ناظر المعارف يدافع الجمعية العمومية الناطقة باسم الأمة المصرية،
ويمنعها بالمغالطات عن طلب النظر في قوانين التعليم، فهل كان ينتظر أن يلتفت إلى
قول واحد من الناس أو اثنين أو أكثر إذا هم انتقدوا على قوانينه؟ على أن الجرائد
كثيرًا ما تنتقد المعارف في سير التعليم وسائر نظامها فيه ولم يغن ذلك شيئًا.
ثم تكلم بعد المفتي الشيخ علي يوسف فذكر بعض ما ينتقد على نظام التعليم
وقوانينه مما يصح أن يذكر في مجلس رسمي، وسنذكر ذلك الجزء الثاني مع جواب
الناظر وبيان الصواب، ونزيد من الانتقاد على تلك القوانين ما شاء الله أن نزيد.
((يتبع بمقال تالٍ))