للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أأحياها محمد علي وأماتها خلفه؟

نشرنا ما نشرناه في المنار من الخلاصة التاريخية لمحمد علي الكبير وحده
وليس فيه تعرض لذكر بيت الإمارة (العائلة الخديوية) في مصر بمدح ولا قدح
ولكننا لم نسلم من عقارب السعاية، فقد قال المحّالون أننا أهنّا هذا البيت الرفيع،
وهم كاذبون، فإننا نبرأ من إهانة البيت أو إهانة أي فرد من أمرائه، ولكن خواص
الناس الذين اتفق لهم الاطلاع على خطبة مصطفى بك كامل التي ألفها وطبعها
وقرأها في الإسكندرية قد عجبوا لما فيها من المبالغة والغلو في مدح محمد علي وذم
خلفه في الإمارة لا سيما إسماعيل باشا ومن بعده. وإنما عجبوا - ولا عجب في
خطل الأحداث - لعلمهم بأنه لا يراد بالخطبة خدمة لتاريخ، ولا تأييدًا لمعتقد، ولا
تنبيه الأمة إلى عمل معين يمكن أن تعمله، وإنما المراد بها إرضاء الأمير الحاضر،
والتزلف إليه، والشهرة بين الناس. ولهم أن يعجبوا ممن يحاول إرضاء إنسان
بقوله: إن جدك الأعلى بنى، وأنت وأبوك وجدك الأدنى هدمتم، وجدكم الأعلى
أحيا وأنتم أمتم، وجدكم الأعلى حفظ وأنتم أضعتم.
فهذا هو ملخص الخطبة، ونحن نزيده تفصيلاً تبرئة للمنار من قول السعاة
المحالين أنه أهان البيت الخديوي الآن، وتوجيهًا للأفكار إلى هذه المسألة الحيوية
التي هي أم المسائل الاجتماعية والسياسية في مصر.
كلام الخطبة المؤيّد بكلام صاحبها في جريدته - وسائر قوله صريح - في أن
الأمة المصرية أمة حية قوية، عزيزة الجانب، مستعدة لأن تَبُذَّ جميع الأمم وتعلوها
في كل علم وكل عمل، وإنما يظهر أثر هذا الاستعداد وهذه الحياة إذا كان أميرها
ومدير شوؤنها كفؤا للإمارة، قادرًا على الإدارة، ولذلك جاءها محمد علي الكفؤ
القادر، وهي على شر حال، فعمل بأيديها أعظم الأعمال، وصريح أيضًا في أن
مصر الآن في ذل وصَغَار وضعف ومهانة: حقوق مغصوبة، ووظائف مسلوبة،
وعزائم مقبورة، ومزايا مستورة ولكنه سكت عن التصريح بالسبب للعلم به مما قبله
مع عدم إمكان التصريح به؛ لأن كل إنسان يفهم أن السيف الذي يقط الرقاب ويفلق
الهام وهو صَدِيء مُفَلَّل لا يعجز عن ذلك بعد السن والشحذ، وأن العمل الذي يقدر
عليه الإنسان وهو ضعيف ومريض يكون أقدر عليه بعد عود الصحة وثوب العافية.
فكيف دوخت الأمة المصرية الأمم القوية وظفرت بالدول الحربية المستعدة مع
محمد علي واستسلمت وخنعت للإنكليز على عهد توفيق وعباس الثاني، إن هذا
لعجاب بلسان مقال مصطفى بك كامل، ولسان حاله بل مفهوم كلامه يقول:
وعادة السيف أن يزهو بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل
جاء في الصفحة الرابعة من الخطبة أن الأمة المصرية التي فتحت البلاد
والأمصار، وكان عددها يومئذ لا يزيد عن ثلث عددها اليوم قادرة على بلوغ غاية
العز ... وجاء فيها أن محمد علي ما ضرب وغلب وساد، وأخضع لسلطان مصر
البحار والبلاد، إلا بعقل المصريّ وبأسه، وجاء في الصفحة الخامسة أنه أخذ
مصر (وهي عليلة ضئيلة لا حراك بها) ... (فرآها بعد عهد الشقاء وزمن البلاء
وأيام المحن والفتن قادرة على القيام بأعظم الأعمال، فيها من روح الحياة وقوة
النهوض ما يزحزح الجبال الراسيات، وتخرّ أمامه الشمّ الثابتات) ثم ذكر الجند
الذي جنده وهو جند الغزاة الفاتحين، وأنه (أخرج من أولئك الفلاحين الذين طالما
تصرفت فيهم الكوارث كما شاءت أبطالاً وشجعانًا اهتزت الأرض تحت أقدامهم
إجلالاً وإعظامًا وعجزت جيوش العالم عن مجاراتهم ومناظرتهم) .
وفي الصفحة الخامسة كشف السر عن ظهور المصريين بعد ذلك الذل المهين
بمظهر الفاتحين القادرين وهو أن (محمد علي) الذي أدرك بواسع عقله كنوز هذا
الاستعداد في المصريين (لم يترك لليأس سلطانًا على نفسه) كأنه يقول إن الأمير
الموجود لم يدرك هذا الاستعداد بعد ظهوره في أكمل مظهر بعمل جده وكان جده رآه
وهو كنز مخفيّ، وأن هذا يئس من نفسه ومن أمته ولذلك لم يتصد للانتفاع بكنوز
استعدادها الظاهرة. نعم إنه لم يصرح بهذا ولكنه قال في أول الصفحة السابعة أن
من يعرف جيش مصر وأسطولها في زمن محمد علي يظن (أن حادثًا استثنائيًّا محا
أمة إليها تنتهي القوة وأحلّ محلّها أمة عاداها الزمان فلم يترك لها إرادة ولم يلبسها
غير لباس الوهن والاستسلام) فهل أن نفسر هذا الحادث الاستثنائي على رأيه
بغير ما تقدم من عدم معرفة الأمير الحاضر بقوة الأمة المصرية ويأسه من نفسه
ومنها؟ كيف والأمة في أعلى الدرجات؟ وكأنه ذكر الأسطول تعريضًا ببيع
البواخر الخديوية على عهد هذا الأمير.
بعد هذا نوهت الخطبة (ص٧) بالمعامل والمصانع التي أنشأها محمد علي
في المدائن والقرى، وبالعمال الذين ازدحمت بهم البلاد ولم يذكر لنا مَنْ هدم تلك
المعامل، ومَنْ غلّ أيدي هذه الأمة الحية عن الأعمال بعد ارتقائها فيها، ثم عادت
إلى التنويه بالقوة الحربية والسياسية ففي الصفحة التاسعة أن (محمد علي) أحاط
مصر بسور من القوة والرهبة وجمع شملها بعد أن كانت مفرقة؛ فصارت وطنًا
واحدًا لأمة واحدة.
وأنه: (وهب مصر عقلاً مدبرًا وقلبًا شاعرًا وساعدًا شديدًا ومجدًا تليدًا (كذا)
وأنه وهب المصريين وطنًا وأمة وحكومة ولسانًا، وطبع على قلوبهم وأفئدتهم
محبة الوطن والشهامة والإقدام وحبّب إليهم الفتح والنصر ورفع الراية المصرية
على كل صقع ومكان) .
فأين ذهبت هذه المزايا كلها وكيف حل محلها (الوهن والاستسلام) وكيف
هبطت من أعلى مكانة تعرج إليها الأمم إلى أسفل تيهور؟ لا يُفْهَمُ من الكلام إلا أن
أحفاد ذلك الواهب هم الذين استردوا الموهوب وفرقوا الشمل المجتمع، وحولوا
بسياستهم الشهامة والإقدام إلى ذل ووهن واستسلام، يدل على هذا ما بعده في
الخطبة.
جاء في الصفحة التاسعة عقيب ما تقدم أن حكومة محمد علي كانت (قائمة
على مبادئ ثلاثة لا تدوم دولة بغيرها، ولا تحيا مملكة بدون إحياءها؛ وهي:
أولاً: حماية الوطن من اعتداء الاجنبي وسلطته.
ثانيًا: ترقية المصري إلى أسمى الوظائف وترشيحه إلى استلام مقاليد
الأمور..
ثالثًا: الامتناع عن الدَّيْن واجتنابه كل الاجتناب، وظاهر أن أحفاد محمد علي
لم يتمسكوا بهذه المبادئ التي لا تدوم دولة بغيرها فإسماعيل باشا أخذ الدَّين
بالملايين وهو أساس الاستعباد كما في (ص١١) من الخطبة، وتوفيق باشا لم
يسمع شكوى المصريين حتى ضباط العساكر من ترقيته الجراكسة والأتراك
(الدخلاء) في الوظائف السامية وحرمان أبناء الوطن العزيز منها ثم استعان عليهم
بالإنكليز عندما اجتمعت كلمتهم وثاروا يطلبون أحد المبادئ (الثلاثة) التي زعم
حَدث السياسة أن (محمد علي) أقام عليها حكومته، وأن إسماعيل باشا وتوفيق
باشا هما اللذان أضاعا البلاد المصرية وأماتاها وهدما دولة جدهما. وفي هذا بيان
لحقيَّة مطالب العُرابيين، فلا ندري هل فهم الخطيب من خطبته ما فهمه كل قارئ
أم لا؟ إن كان قاله عن فَهْم فلم يعلن العُرابيين في جريدته؟ وإن كان قاله من غير
فَهْم فكيف يكن هو مؤلف الخطبة ومنشئها ولا يفهمها! !
وفي الصفحة العاشرة فصل الخطاب في مقابلة الخطبة بين الماضي والحاضر
قال: (مصر اليوم تمتثل الاستسلام للإنكليز، والرضوخ لسلطته، والامتثال
لإرادته، وهي هي التي ردته عن الديار تحت إمارة محمد علي وفي ظل رايته)
ثم أثنى على الأمة المصرية بغلب الإنكليز ما أثنى، وذكر أن إنكلترا (أرادت أن
تقضي على هذا الملك الجديد وهذه الدولة الناشئة) فأراها يومئذ بنو مصر أي أمة
هم وأراها محمد علي أي أمير هو!
فتركت الثغور والبلاد آسفة على فشلها معجبة بهذا المجد الباهر، والعزم
القاهر، والوطنية الحقة، والهمة الحديدية) منطوق الكلام صريح في أن الذي أرى
الإنكليز ذلك العزم القاهر في نفسه، وفي الأمة المصرية هو محمد علي، وأنه هو
الذي كان إمام الأمة في الاستقلال ومفهومه أن أميرها في عصر الاحتلال الحاضر لم
يقدر أن يرى الإنكليز..، أي أمير هو؟ وأية أمة أمته؟ فالنتيجة أنه هو القائد
والإمام في هذا الاستسلام.
ولكن أكثر المصريين إن لم نقل كلهم قالوا: إن الأمير الحاضر (وفقه الله
تعالى) قد جاء مصر بهمة محمد علي وعزمه، وزاد عليه بدينه وعلمه، ولكنه لم
يجد في البلاد رجالاً أصحاب عزائم يعمل بهم كما وجد محمد علي، والسبب في هذا
هو ما تقدم في المنار الماضي من كون محمد علي وجد الشجاعة والعزيمة والنجدة
في البلاد فحارب بها وحاربها حتى فنيت بعد ولايته في زمن قريب، فمقالة (آثار
محمد علي في مصر) التي نشرناها في الجزء الماضي يمكن أن يحتج بها من
يعتذر لأميرنا الحاضر (أيده الله) وإذا سلمت هذه المدائح والمناقب التي ذكرت في
الخطبة لمحمد علي فهي حجة على كل أولاده وأحفاده، ويجب أن تبعث في نفوس
المصريين حب محمد علي وبغض جميع ذريته الحاكمين ومقتهم؛ لأنهم هم الذين
أضاعوا استقلال النفوس فضاع في أثره استقلال البلاد لا سيما بُعْد الدين وإعطاء
الوظائف (للدخلاء) .
وإن تعجب فعجب سعي بعض الذين يزعمون حب سمو الخديو الحاضر أو
سعايتهم إليه باسم النصيحة بأن يجتهد في مقاومة كل صاحب إرادة وعزيمة في
مصر، حتى قال أحدهم لسموه (إذا لم تقطع هذه الرؤوس الناتئة كما فعل جدك فلا
يصفو لك الملك في مصر) فليتق الله هؤلاء الذين يقدحون من حيث يمدحون،
ويغشون في عين ما به ينصحون، ويضرون الراعي والرعية إذا رأوا أنهم
ينتفعون.
ومما يصح أن يعد حجة صريحة في الخطبة على ما تقدم فيها بالمفهوم من أن
خلف محمد علي هدموا ما بناه، وأماتوا ما أحياه، ما في الصفحة (١٣) من
المقابلة بين الأمة المصرية، والأمة اليابانية، وتفضيل نشأة الأولى على الثانية،
والحكم بأنها لو سلكت السبيل الذي وجهها إليه محمد علي لبلغت من الشأن والشأو
ما لا يُكْتَنَه كُنْهه، فإذا وجه الحكام المطلق الأمة إلى شيء هو في طبيعتها
واستعدادها فمن الذي يحولها عنه بعد ذلك إلا الحاكم المطلق الذي هو مثله؟ الكلام
صريح، ليس بتعريض ولا تلويح.
هذه هي الخطبة من حيث المقابلة بين الماضي والحاضر ومدح محمد علي
وهجو خَلَفه ولا نتعرض لما فيها من الغلو والكذب على التاريخ كزعم أن محمد
علي وفق بين المدنية العصرية والدين والإسلامي وغير ذلك فمحمد علي لم يكن
عالمًا ولا فيلسوفًا وإنما كان أميًّا لا يعرف من علوم الدين ولا من علوم الدنيا شيئًا.
وفي الخطبة أنه تعلم القرءاة بعد الأربعين. ولكنه لم يتعلم من العلم شيئًا وحسبنا ما
تقدم في المنار من حقيقة أمره. نعم إننا لم ننكر أنه كان جنديًّا باسلاً وشجاعًا حازمًا
وبذلك تيسر له أن يكون قائدًا لأولئك الشجعان الذين أَبَادَ بِهِم ثم أبادهم.
وبقى في الخطبة كلمتان لا بد من التنبيه عليهما. إحداهما ما جاء في الصفحة
(١٥) من أنه بقى في مصر من الاستقلال الذي أزاله الإنكليز قوة كبرى إليها
انتهت وتنتهي كل قوة في مصر وهي السلطة العالية التي استمدت وتستمد البلاد
منها كل نجاح وفلاح وهي عرش الخديوية الذي يمثل قوة مصر في ماضيها وآتيها.
فمن ذا الذي يستطيع أن يفهم هذا الكلام، بعد كل ما تقدم من الإيهام، وهل يصح
أن يسأل قائله عن رأيه في استعمال صاحب هذا العرش المتولي على هذه الأمة
الحيّة لهذه القوة الكامنة أولا؟ وثانيهما نصيحته في آخر الخطبة للمصريين أن
يتركوا اليأس ويبنوا مجدهم المقبل على (التربية الوطنية) ليخرج منهم رجال
عظام يبدلون ليل الأوطان بالنهار. فهل يريد أنه ليس فيهم الآن رجال وهل يريد أن
يعتمدوا على أنفسهم، لا على عرش الخديوية وقوته الكامنة؟ وهل يمكن أن يعود
إليهم مجدهم بدون أمير كمحمد علي الكبير؟ .
كلا، إنه ذكر التربية الوطنية التي يزعم أنه المنفرد بالحث عليها وأنها
المحيية للبلاد ليفهم الناس أنه هو محيي الوطن بعد محمد علي ولذلك ختم خطبته
بكلمة لم تطبع وهي: إنني خطبت هنا سنة ١٨٩٦ خطبة كانت من أثرها هذا
الانقلاب الكبير في التربية والتعليم، وسيكون أثر هذه الخطبة أكبر وأعم في تقدم
الوطن العزيز؛ فخرج القوم يضحكون من هذا الغرُور.