للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر [*]

الشذرة الخامسة من جريدة أراسم
الخط الديواني
أنشأ (أميل) يخط بالقلم خطًّا مناسبًا لحاله ولكني في شك من جريه على
قواعد الخط في شيء مما يكتب.
كان الخط فيما مضي كأنه من صفات الكاتب الذاتية وكان يدل على حالة
من أحواله، سواء فيه الحسن والقبيح، ولذلك وجد متوسمون يعتقدون أنهم يقرأون
في خط من لا يعرفونه من الناس ضروب استعداده النفسي. ولا بدع في هذا فإن كل
أعمال الإنسان منبعثة عن أخلاقه وسجاياه، فلا شيء من الاستحالة ولا من البعد عن
الحقيقة - على ما أرى - في أن يكون الخط وهو الأثر الدقيق المثبت لصنوف
الوجدان وأنواع المعاني على الورق سمة من سمات النفس وأمارة من أمارات الطبع.
يشهد لذلك أن من الذين خطوطهم بين أيدينا قد غيروا في حياتهم طريقتهم في
صوغ حروفهم عدة مرات، فلا يمكن أن يكون هذا التغيير الذي يحق لنا المراهنة
على حصوله بغير شعور منهم أجنبيًّا عن بعض استحالات حصلت في عقولهم.
ومن الأمور التي اعتقد الباحثون في هذه المسألة أنهم تنبهوا إليها ولاحظوها أن أقرب
أطوار الكاتب إلى الفطرة هو ذلك الطور الذي يكون فيه خطه مرسومًا بأقرب
السمات إليها أيضًا.
اخترع الناس في هذه الأيام للخط طرقًا لا شك لها مزية في تهذيبه وتقويم يد
الكاتب، ولكنها متى انتشرت وعم استعمالها اتحدت الخطوط وتشابهت فلم يبق بينها
فروق تميز بعضها من بعض، فنحن في هذا القرن قرن السكك الحديدية والأقلام
الحديدية نسارع كلنا إلى تحقيق الوحدة في كل شيء.
لو أن هذا الميل إلى الصناعة اقتصر على أمارات الفكر وقوالب المعاني لكان
الخطب هينًا ولكنه لم يقف عندها بل تعداها إلى الفكر نفسه.
أنا على يقين من وفرة علومنا ومعارفنا فليست هي التي تعوزنا؛ إذ قد وجدت
طرق سهلة صيرت مبادئ العلم وآداب اللغة والفنون الجميلة قريبة التناول لجميع
الناس، وكل يوم يتحدث الناس بانتشار العرفان بيننا، وهو أمر أنا بعيد عن المنازعة
في جلالة خطره وعظم شأنه، ولكني لا أرى علي حرجًا إن سألت نفس هذه الأسئلة
وهي: هل ارتفع عقل الإنسان في هذه القرون إلى مدارك أسمى مما بلغه في
القرن الثامن عشر؟ هل حصل له من قوة النفس والانبعاث الذاتي إلى العمل
والأخلاق الممتازة التي تتجلى في صورة مجتمعة - المُظلمة والأعمال البديعة -
أكثر مما كان له في ذلك القرن؟ هل ارتفعت قوة الإدراك مع انتشار تساوي الناس
فيها كل يوم؟
واأسفى أني ألتفت حولي فيعروني الذهول ويملكني الدهش لما أراه من غلبة
الأوساط في العقل وكثرتهم، وأسمع الناس يرددون القول بأن العقل والاستعداد قد
شاعا في هذه الأيام حتى عما السابلة الغوغاء ولو أنهم قالوا: إن كل واحد أصبح
فيه عقل غيره واستعداده. لكان هذا القول أصح وأقرب إلى الصواب. نعم إن قرننا
قد وصل إلى طريقة بديعة في الإكثار من الدواليب والآلات المحاكية للفكر وقامت
المهارة في الفنون مقام الاستعداد الفطري والعزيمة وأزهق التكلف في آداب اللغة
روح الإلهام وأنزلت الدسيسة والخداع في مجرى الحياة وشئونها الفضل والجدارة عن عرشهما وحلا محلهما، فترانا الآن منحدرين على طريق مستقيم عام
إلى محو ضروب الفصل والرجحان في العقل والخلق محوًا تامًّا، فعليك أيها الإنسان
من الآن أن تقنع بأن تكون كجميع الناس.
ولا شك أن هذه الحالة التي عليها العقول الآن ترجع إلى أسباب كثيرة ليس
من غرضي استقصاؤها هنا، منها نظام معيشتنا وفقدان الحرية السياسية عندنا
واهتمامنا المتزايد بالمصالح المادية، ومنها أمر لا يسعني إغفاله وإلا استحققت اللوم
وهو أن التربية بالحالة التي هي عليها اليوم أقرب إلى ستر عيوب الأطفال وإخفاء
مواضع الضعف فيهم ببعض طرق التعليم السريعة التي تكاد تكون آلة محضة.
أقول: إنها أقرب إلى ذلك منها إلى قصة اكتشاف ملكاتهم وقواهم النفسية وتنميتها،
فترى القائمين على التعليم عوضًا عن تميمهم أن الغرض من مجاهداتهم وكدحهم في
التعلم إنما هو نيل الفخر بأن يكونوا عمالاً نافعين- يجعلون غايتهم الارتقاء إلى
المناصب ونيل الغنى، ويقتضون منهم أن يبلغوا إليها وهم بذلك يبكرون بحمل
الأحداث على أن يتبينوا أن المواضعة والصنعة هما أقرب طرق النجاح وأحسن
وسائل الفلاح. اهـ
الشذرة السادسة
(مذهب تشغيل المتعلمين بالأعمال المادية الشاقة)
توجد في بعض المدارس بإنكلترا عادات قديمة يدهش منها الأجانب كثيرًا ذلك
أن التلامذة فيما يوجد منها بمدينتي راتون وهارو وهي التي يدخلها أبناء السراة
غالبًا يخدم بعضهم بعضًا، وليس أمر الخادمية والمخدومية فيها متعلقًا بمكانة التلميذ
في قومه، ولا بغنى أهله أو فقرهم بل بالأقدمية وبعض الدرجات المدرسية، فيجوز
أن يلزم الطفل الغني السري بتنفيض ثياب الطفل الفقير الوضيع وتأدية مطالبه
وتنظيف غرفته وإيقاد ناره وتسوية طعامه وحمل كتبه إليه في قاعة الدرس، فيقع
الإلزام بالخدمة على من تجعلهم المدرسة في الدرجات الدنيا من أقسامها.
والذي أستهجنه من هذه العادة ما يكون بين التلميذ الخادم والمخدوم من رابطة
التابعية الذاتية، فإن الأقدمين من التلامذة يسيرون أحيانًا مع من يعتبرونهم خدمًا لهم من إخوانهم سيرة في غاية القسوة حتى إنه ليقع منهم في حقهم ما نقرأه في قصص موليير [١] المضحكة من الشتائم وضربات الأكف، وجميع ضروب سوء
المعاملة التي تقع من صغار الموالي على خدمتهم بأرجلهم وأيديهم الخفيفة الحركة.
أولئك الخدم الصغار الذين كانوا بالأمس أرقاء وصبرًا على الذل مستسلمين للجور يصيرون في الغد سادة متجبرين، وهكذا شأن الدنيا وبمثل هذا تنقل جميع أنواع العتو والطغيان من سلف إلى خلف.
لا أرى فيما عدا هذا العيب شيئًا في هذه الطريقة فإنه لا ضرر مطلقًا في أن
يقوم بخدمة المدرسة التلامذة أنفسهم. ولقد عرفت فيما مضى مدرسة كان يديرها
رجل وافر العقل عالي الفكر اختار هذا المذهب وتيسر له أن يجني منه فوائد كبرى
في تربية الناشئين، ذلك أنه عهد بمعظم أعمال مدرسته إلى جماعات من الغلمان
واليافعين منقسمين إلى طوائف على حسب مقتضيات أذواقهم وضروب ميلهم
الفطري؛ لأنهم كانوا في هذه الأعمال مختارين متطوعين فكان الواحد مهنم إما لبادًا
أو كناسًا أو وقادًا للمصابيح أو موقظًا لإخوانه في الصباح أو منظمًا لقاعة الدرس
وكانوا يتناولون خدمة المائدة وكانت الأعمال المسخرة التي تقتضي أكثر من غيرها
إخلاصًا أجلَّ من غيرها أيضًا في نظر التلاميذ؛ لأن رئيس المدرسة كان يتظاهر
بتميزها عن غيرها بما كان يوزعه من شارات الشرف على من كان يدعوهم
إقدامُهُم إلى مباشرتها. وليتك زرت هذا المكان حتى كنت تشاهد مقدار التحمس
المفرح الذي يبديه كل تلميذ في القيام بعمله كأنه فرض اختياري أوجبه على نفسه.
كان من مزايا هذه الخدمة البيتية للتلاميذ أنها كانت تسلية لهم من عناء الدروس؛
لأنه كان من رأي رئيسهم أن في المراوحة بين الأعمال استراحة من مشقتها وكان
من غرضه فوق ذلك أن يلقي في نفوسهم معنى احترام جميع الوظائف وكل فروع
العمل اليدوي، فإن الإنسان لا يحتقر من غيره ما يباشره هو بنفسه.
إني لتعرض لي في بعض الأحيان أحوال تحملني على اعتقاد أن ما ندعيه من
حب المساوة ليس إلا رياءً ونقاقًا؛ لأني أرى من لا تفتر ألسنتهم عن اللهج بهذه
الدعوى لا يجرون على مقتضاها في أعمالهم، فالطفل الذي يرى في المدارس أو
البيوت أناسًا اُستؤجروا لخدمته يستنتج من ذلك طبعًا أن الأعمال الشاقة أو الكريهة
هي من حظ الطبقة السفلى من قومه ولا يفيد في محو هذا الاعتقاد من نفسه أن
تحدثه في المستقبل عن ضرورة تقسيم العمل بين الناس أو عن غير ذلك من
المسائل النظرية الكثيرة فإنه يعلم كمال العلم أن ليس للخدم أن يأكلوا على موائد
سادتهم ولما كان يتوسم في ما لديه أنهما يعدانه؛ لأن يكون من العلماء ويكفيانه بذلك
مؤنة الاشتغال ببعض الأعمال التي من شأنها أن توسخ يديه أو تقذر وجهه كان
رأيه في هذه الأعمال لا بد أن ينتقل إلى من يقارفونها من الناس فيحكم عليهم
بحكمه عليها وبذلك لا يكون إلا كثير الانسياق إلى احتقار جميع الصناع والرزاية
عليهم.
صممت أنا وهيلانه على تكليف (أميل) بعمل كل ما يلزم لفراشه وهجرته
وثيابه ولا أكره مطلقًا أن أراه يمسح نعليه ويسوي عند الحاجة طعامه، فإن الفائدة
التي تعود عليه من ذلك ليست قاصرة على كونه يتعلم عدم امتهان من يكسبون
قوتهم بمثل هذه الأعمال، بل إن فيه أيضًا تنمية لحريته الشخصية على الاستغناء
عن مساعدة غيره، فالأسير المسكين من يعجز عن خدمة نفسه. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))