للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة سيرة الكواكبي

وكان أول عمل عمله في إدارة مجلس البلدية هو قطع عرق الرشوة من
العمال الذين يباشرون الأعمال والمصالح ويسمون (الجاويشية) ولكنه زاد في
راتبهم؛ لعلمه بأن الذي يضطر أكثر العمال إلى الرشوة هو قلة الراتب. وكان من
ظلم الوالي بعد عزل الفقيد من رياسة البلدية أن أرجع راتب الجاويشية كما كان
وألزم صاحب الترجمة بدفع ما كان زاده لهم في مدته إلى صندوق البلدية كما ألزمه
بدفع ما أنفق على سلاسل الحديد التي منع بها الجمال من طرق المدرسة؛ لأن
الوالي أمر بإزالتها عقيب عزله ثم عاد فأمر بإعادتها بعد زمن قريب ولكنه لم يعد
إلى الفقيد الغرامة التي ظلمه بها.
ولما عين رئيسًا لكتاب المحكمة الشرعية كانت المحكمة في أسوإ الأحوال في
الصورة والمعنى، فكان ينفق على إصلاحها من جيبه حتى إنه استحضر لها
السجوف والأستار من بيته ومنع اختلاط النساء بالرجال إذ جعل لكلٍّ مكانًا ينتظر
فيه دوره للتقاضي ورَتَّبَ الأوقات ونظَّم الدفاتر.
وكان صاحب عزيمة قوية لا يهاب حاكمًا ولا يخاف ظالمًا وعزيمته هي التي
جنت عليه فقد كان نجح في عمله عندما عين مديرًا ومفتشًا لمصلحة حصر الدخان كما
تقدم في السيرة الرسمية حتى وقع النزاع بنيه وبين عارف باشا والي حلب يومئذ
فبطل العمل عمل الفقيد في ضبط هذه المصلحة ما عجزت عنه إدراتها العمومية
والحكومة جميعًا حتى كانت تخسر في ولاية حلب دون سائر بلاد الدولة،
وكان المشتغلون بتهريب الدخان البلدي وبيعه في حلب سبعمائة رجل فعين لهم
رواتب ومنعهم من التهريب بحكمة عجيبة وسيأتي مجمل خبره في عداء الوالي عند
الكلام على بعض الصعوبات التي لقيها في طريقه.
كانت مدة الاتفاق الأول مع مصلحة حصر الدخان ثلاث سنين فانفصل من
إدارة العمل والتفتيش بعد سنتين بالسبب الذي ألمعنا إليه، ولثقة الفقيد بنفسه
واقتداره على العمل ذهب إلى الأستانة بعد عزل عارف باشا من ولاية حلب فعقد
اتفاقًا آخر مع المصلحة والحكومة مدته عشر سنين وكان أراد أن يضم إلى ولاية
حلب متصرفًا فعقد اتفاقًا آخر مع المصلحة والحكومة مدة عشر سنين وكان أراد أن
يضم إلى ولاية حلب ومتصرفية الزور ولايتي بيروت وسورية فلم يرض له ذلك
من استشاره من الأقربين فرجع عنه. وقد نجح أيضًا في المرة الثانية ولكن حدثت
بعد أربع سنين الفتنة الأرمنية فنهب الأرمن الدخان من عدة بلاد وقتلوا موظفي
المصلحة فكان الفقيد يخسر في الشهر بضعة عشر ألفًا من الليرات فتوسل بذلك إلى
الآستانة بحل العقد وإبطال الاتفاق فتم له ذلك بعد عناء وخسارة عظيمة ولإخلاصه
بحب المصلحة العامة كانت أكثر وظائفه فخرية أي بغير راتب كما عرف من
الترجمة الرسمية ويزيد على هذا أنه كان يبذل شيئًا من ماله فوق ما أخذه من راتب
بعض الوظائف لأجل ترقية العمل وإتقانه، وهذا خلق لم يعرفه الشرق في هذا
العصر.
مشروعاته:
طلب من الحكومة عدة امتيازات بأعمال عظيمة لم تكن تخطر لأهل بلاده
على بال. (منها) إنشاء مرفأ في السويدية وطريق حديدي منها إلى حلب.
و (منها) جلب نهر الساجور إلى حلب لأن ماء المدينة قليل، ولو تم هذا العمل
لأحييت به أرض واسعة فكانت جنات وحدائق. (ومنها) أن عينًا خوارة في سفح
جبل بين أرمنان وأدلب قد أغرقت أمواهها تلك الأرض فجعلتها مستنقعات تضر
الناس، ولا يأوي إلى غاباتها إلا الخنزير البري فذهب الفقيد إليها واختبر حال
الأرض والعين اختبارًا هندسيًّا زراعيًّا فعلم أنه يمكن جر مائها إلى أدلب القليلة
الماء وتجفيف تلك المستنقعات فتصير نافعة وتحيا أرض أدلب ويحيا أهلها
فطلب بذلك امتيازًا.
و (منها) إنارة حلب وبيره جك ومرعش وأورفه بالكهربائية بواسطة شلال
يحدثه من نهر العاصي في محل اسمه المضيق بالقرب من دركوش تابع لجسر
الشغر وكان اختبر المكان اختبارًا هندسيًّا فعلم أن إحداث الشلال فيه ممكن.
(ومنها) استخراج معدن نحاس من أرغنه التابعة لولاية حلب. وقد حال دون إعطاء
بعض هذه الامتيازات ما يحول كل مصلحة عامة يطلبها الوطنيون كالرشوة ونحوها.
وقد كان أعطى امتياز استخراج النحاس واشتغل به ثلاثة سنين ونيف وبعد ذلك
أرادت حكومة الولاية إبطاله لأمر ما فأدخلت مع الفقيد في العمل بعض الأجانب
وتوسلت بذلك إلى إبطاله.
خدمته للناس وللحكومة:
كان اتخذ له مكانًا بين داره ودار الحكومة سماه المركز يأوي إليه وكلاء
الدعاوي فكان يؤمه أصحاب الحاجات والقضايا يستشيرون صاحب الترجمة في حل
عقد المشكلات، ويستضيئون برأيه في دياجير المهمات، وكان في الغالب يفضل
بينهم بالتراضي ويغنيهم عن المحاكمة والتقاضي فإن احتيج في قضية إلى الحكومة
يندب له من يراه أهلاً لها من الوكلاء المحامين، وإن كانت عظيمة الشأن أن يندب
نفسه ويحاكم المبطل حتى يحق الحق لصاحبه. وقد كان قُصَّادُ ذلك المركز يكادون
يزيدون على قصاد دار الحكومة، وكانت الحكومة نفسها تستشيره في الشئون
الغامضة تعتمد على رأيه.
* * *
مقاومة الحكام له:
ورث الفقيد عن سلفه السادة الأمراء علو الهمة وقوة العزيمة وعدم المبالاة
بالأخطار فهو من سلالة السيد إبراهيم الصفوي الأردبيلي المهاجر إلى حلب وما
حديث الصفوية في الإمارة بمجهول. بهذا كان رحمه الله تعالى لا يهاب الحكام
ولا يداريهم مع أن حكومتهم في الحقيقة استبدادية. وهذا هو الذي أحبط أعماله في
بلده وذهب بثروته. غَاضَبَ عارف باشا أحد ولاة حلب فأغرى بعض الناس بأن
يكتب إلى الأستانة شاكيًا من سيئات الوالي شارحًا لهم فعلم الوالي بذلك فعمل مكيدة
لحبس الفقيد وضبط أوراقه وزوَّر عليه ورقة سماها (لائحة تسليم ولاية حلب
إلى دولة أجنبية) وطلب محاكمته عليها، وحكمُ القانون في هذه الجريمة الإعدامُ
ولكنهم غلطوا في معاملته بالحبس وطلب الاستنطاق غلطًا قانونيًّا ما كان ليخفى
على الفقيد فكتب إلى الأستانة كتابة مطولة يظهر فيها أن خروج حكومة الولاية
عن حدود القانون هو من دلائل تحاملها عليه وتحريها ظلمه، وطلب أن يحاكم في
ولاية أخرى فأجيب طلبه وحُوكم في بيروت فحكم ببراءته وما زال يتتبع الوالي
حتى عزل بعد عودته إلى حلب وكان هو أول من بشره بالعزل بواسطة قاضي
الولاية ثم إنه أخرجه من حلب بإهانة عظيمة؛ لأنه أوعز إلى أصناف الفقراء
الذين كانوا يسمون الفقيد أباهم لنصرته إياهم فاجتمعوا عند داره بهيئات غريبة
فترك أهله وخرج كالهارب وسافر إلى الأستانة وتبعه الفقيد ليحاكمه ولكنه لم يكد
يصل إليها حتى مات قهرًا.
وكان الشيخ أبو الهدى أفندي الشهير من أعدائه ويقال أن السبب الأول في
ذلك إباء الفقيد أن يصدق على نسب الشيخ أبي الهدى هذا، وإن الشيخ أبا الهدى
صار نقيب أشراف حلب وكانت هذه النقابة من قبل في آل الكواكبي. ومن آداب
الفقيد العالية أنه كان هنا يثني على صفات الشيخ أبي الهدى الحسنة كالمروءة
والكرم والذكاء والثبات وقلما كان يخوض بانتقاده إلا مع الخواص الذين يعرفون
الحقائق فكانت عداوتهما عداوة العقلاء.
خسر الفقيد بتلك المحاكمة ألوفًا من الجنيهات وخسر أضعافها بإدارة شركة
انحصار الدخان للمرة الثانية أيضًا؛ لأن الحكومة مكلفة بحفظ أماكن الشركة فلما
حدثت فتنة الأرمن امتنع الوالي عن إرسال العساكر لمنع نهب الأرمن مال الشركة
وخسر بعدم مداراة الحكام غير ذلك من المزارع والأرض (منها) مزرعة (جفتلك)
جميل باشا الوالي التي اشتراها منه الفقيد فاعتدى عليها زعماء التركمان بإغراء خفي
حتى أخذوها ومنها مزرعة (جفتلك) كانت مستنقعات تابعة للأراضي الأميرية فألف
لها شركة وأخذها من الحكومة وجففها فأغرى المغرون بعض عشائر الأكراد بالتعدي
على حصته فحاكمهم فحكم لهم عليه بالمساعدة الخفية، وفي أثر ذلك سافر مهاجرًا
إلى مصر.
سياسته ورأيه في الإصلاح:
لم يكن الفقيد في اشتغاله بخدمة بيته وبلده وحكومته غافلاً عن شئون
المسلمين العامة فقد كان يقرأ الجرائد التركية والمصرية حتى الممنوعة التي كانت
تدخل إلى حلب كغيرها بوسائط خفية. ولما هاجر إلى مصر كان أول أثر له فيها
طبع سجل جمعية أم القرى وكان يقول: إن لهذه الجمعية أصلاً، وأنه هو توسع في
السجل ونقحه ست مرات آخره عند طبعه منذ سنتين ونيف أي عقيب قدومه إلى
مصر. وقد قال لنا مرة: إن الإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا
يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد بل إن بلاد الحرية تولد في الذهن من الأفكار والآراء
ما لا يتولد في غيرها. ومن يقرأ الكتاب يظن أن صاحبه صرف معظم عمره
في البحث عن أحوال المسلمين وتاريخهم في عقائدهم وعلومهم وآدابهم وتقاليدهم
وعاداتهم ومنه يعلم رأي الفقيد في الإصلاح وقد كنا معه على وفاق في أكثر
مسائل الإصلاح حتى إن صاحب الدولة مختار باشا الغازي اتهمنا بتأليف الكتاب
عندما اطلع عليه وربما نشير إلى المسائل التي خالفنا الفقيد فيها في هامش الكتاب
عند طبعه وأهمها الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية.
أما آراؤه السياسية فحسبنا منها كتاب طبائع الاستبداد الذي يكاد يكون معجزة
للكتاب السياسيين. وقد زعموا أن معظم ما في هذا الكتاب مقتبس من كتاب
لفليسوف إيطالي في الظلم. ومن كان له عقل يميز بين أحوال الإفرنج الاجتماعية
وأحوالنا وذوقهم في العلم وذوقنا يعلم أن هذا الوضع وضع حكيم شرقي يقتبس علم
الاجتماع والسياسة في حالة بلاده حتى كأنه يصورها تصويرًا، وإذا لاحظ مع ذلك أن
هذا الكتاب كان مقالات مختصرة نشرت في المؤيد ثم مدها صاحبها مد الأديم
العكاظي وزاد فيها فكانت كتابًا حافلاً يتجلى له علمه الأول بصورة أوضح وأجلى،
وإذا علم بعد هذا كله أنه نقحه بعد الطبع فحذف منه قليلاً وزاد فيه كثيرًا يعلم علم
اليقين أن ينبوع علم هذا الرجل صدره وأنه كان يزداد في كل يوم فيضانًا وتفجيرًا،
نعم إن قال في مقدمته: إن بعضه مما درسه، وبعضه مما اقتبسه، وإننا نعلم أنه
لم يولد إنسان عالمًا ولكن فرقًا عظيمًا بين من يحكي كلام كغيره كآلة (الفوتغراف)
وبين من يُحَكِّم عقله في علوم الناس فيأخذ ما صح عنده وينبذ ما لا يصح. من كان
له مثل هذا العقل الحاكم في كليات العلوم فهو الفيلسوف إن كان اجتهاده هذا في
العلوم العقلية والكونية وهو الإمام إن كان اجتهاده في العلوم الدينية.
وجهته الأخيرة:
وجه همته أخيرًا إلى التوسع في معرفة حال المسلمين ليسعى في الإصلاح
على بصيرة فبعد اختباره التام لبلاد الدولة العلية تركها وعربها وأكرادها وأرمنها،
ثم اختباره لمصر ومعرفة حال السودان منها ساح منذ سنتين في سواحل إفريقية
الشرقية وسواحل أسيا الغربية، ثم أتم سياحته في العام الماضي فاختبر بلاد العرب
التي كانت موضع أمله أتم الاختبار فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندي ومازال
يوغل فيها حتى دخل في بلاد سوريا واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل وعرف
استعدادهم الحربي والأدبي وعرف حالة البلاد الزراعية وعرف كثيرًا من معادتها
حتى إنه استحضر نموذجًا منها. وقد انتهى في رحلته الأخيرة إلى كراجي (من
مواني الهند) وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية حملته بتوصية من
وكيل إيطاليا السياسي في مسقط فطافت به سواحل بلاد العرب وسواحل إفريقيا
الشرقية فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارًا سبق به الإفرنج، وكان في نفسه
رحلة أخرى يتم بها اختباره للمسلمين وهي الرحلة إلى بلاد الغرب ولكن حالت
دونه المنية التي تحول دون كل الأماني والعزائم.
أرأيت رجلاً كريم الأصل، كبير العقل، تربّى أحسن تربية وتعلم أحسن
تعليم ودخل في الأعمال المختلفة وتصدى للمشروعات المتعددة وكتب في أدق
المسائل أحسن الكتابة وساح في البلاد، واختبر أحوال الأمم، حتى بلغ أشده،
واستوى كيف يكون حاله وما هي درجة استعداده؟ هذا هو صديقنا الذي فقدناه
بالأمس، فكأنما فقدنا به الشمس، ومثل تلك الآمال الكبيرة لا تبلغ إلا بمساعدة
الحكومة أو سعة المال أو الجمعيات، وقد كان له أمل في مصر وأميرها أراه الاختبار
خلافه. ولقد كان لموته تأثير كبير في الفضلاء والعقلاء، وقد نُعِيَ إلى الجناب
الخديوي في صبيحة الليلة التي مات فيها فأمر بأن يجهز على نفقة سموه وأن يعجل
بدفنه فكان ذلك. فرحم الله فقيدنا وأحسن عزاء الإسلام والشرق فيه.