للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فرنسا والإسلام
لا تزال دولة فرنسا في حيرة وعمه لا تهتدي معهما إلى طريقة تطمئن إليها
في سياسة مستعمراتها الإسلامية فكتابها من الفلاسفة والسياسيين يواصلون البحث في
الإسلام على مر الأيام والأعوام لأجل إشراع هذه الطريقة وما هم بمشرعيها ولما
تطمئن نفوسهم إلى شيء كاطمئنان نفس إنكلترا في سياسة مستعمراتها الإسلامية
وغير الإسلامية. ولقد ظهرت نتيجة حسن سياسة إنكلترا في ارتباكها بحرب
الترانسفال فلقد كانت عاجزة عن تأديب مملكة واحدة من ممالكها الاستعمارية
الواسعة إذا هي تألبت عليها وثارت تريد الخروج من دائرة سلطتها. والله يعلم ما
يكون من أمر مستعمرات فرنسا معها إذا وقعت في مثل ذلك الارتباك وانتهت إلى
مثل ذلك الخطر الذي كانت فيه إنكلترا أيام كانت الحرب في شبابها.
سلكت فرنسا مع المسلمين مسلك العنف والضغط حتى حالت بين المسلمين
الذين تحت سيادتها وبين العلم والتعليم وزعمت أن فرقًا بينها وبين إنكلترا فإنها تحكم
شعوبًا لا تزال الشهامة الإسلامية والشجاعة العربية متمكنة في نفوسها، وأن إنكلترا
تسوس قومًا فسد بأسهم وهجرتهم الشجاعة والشهامة بما توالى عليهم من ظلم
حكامهم كالهنديين والمصريين الذين لا تخشى بادرتهم، ولا تحذر غائلتهم، وجهلت
أقرب حوادث التاريخ في مصر وهو خروج المصريين على حكامهم الذين يدينون
بدينهم وينطقون بلغتهم عندما أمكنتهم الغرة من الخروج عليهم حتى كان العلماء
وهم أبعد الناس عن السياسة من خطباء الثورة العرابية ودعاتها بعدما كانوا يقولون
بوجوب طاعة هؤلاء الحاكمين والخضوع لهم.
لا أنسى كلمة سمعتها من كبير العلماء في بلد من سوريا قالها في محفل كبير
ذكرت فيه الثروة العرابية فقال ذلك الشيخ رحمه الله: (كلنا عرابيون) ودعا لعرابي
وحزبه بالنصر، وإذا وجد في العلماء رجل واحد بصير بالسياسة كان يحذر العرابيين
وينذرهم سوء عاقبة الثورة كالشيخ محمد عبده فذلك لا ينافي أن الجماهير كانوا
راضين عنها وداعين إليها.
أتجهل فرنسا سياسة الظلم والقوة التي نفخت روح الثورة في المصريين
الجبناء في نظرها على حكامهم المسلمين تخشى عاقبتها من الجزائريين والتونسيين
وهم من أهل النجدة والبأس والشجاعة والشهامة؟ أتجهل السر في سكون هؤلاء
الذين عهدهم بالثورة غير بعيد عند ظهور انكسار إنكلترا في الحرب المرة بعد المرة؟
السر ظاهر غير مكتوم، وهو أنهم في رخاء من العيش يرفلون في ظلال الحرية
التامة ونعيمها. نعم إنهم يتمنون الاستقلال التام؛ لأنه هو كمال الحياة الاجتماعية
ومن نجا من الاستعباد والاستذلال، يشتهي كمال الاستقلال، ولكن الناس لا
ينبعثون إلى الثورة إلا بالظلم فإن الانفجار نتيجة الضغط.
إذا كانت إنكلترا لا تساعد استعداد الشعوب على الترقي كما هو شأنها في
زنجبار فإنها قلما تعارضه؛ لأنها لا تحارب الطبيعة فقد كان مسلمو الهند في جهل
وخمول فتركتهم وشأنهم فظهر فيهم مرشدون اشتغلوا بتربيتهم وتعليمهم فصادفوا
من الحكومة الإنكليزية ارتياحًا بل تنشيطًا ومساعدة وأعطتهم الحرية التامة في
إنشاء المدارس والجرائد وعقد الجمعيات. والبريد عندهم حر فلم نسمع أن جريدة
منعت عن الهند وإن مكتوبًا ضاع أو رسالة اختزلت أو كتابًا أرسل فلم يصل، فهل
تعامل فرنسا أهل الجزائر بمثل هذه المعاملة أو بما يقرب منها؟ .
لقد كان لفرنسا في سيرة الإنكليز في الاستعمال ما يغنيها عن كثرة البحث
والتأليف والتصنيف في حال المسلمين، وكيف ينبغي أن يعاملوا ويغنيها عن تأليف
اللجنة التي ألفتها من عهد قريب لتمحيص البحث في هذه المسألة.
يحكم كتاب فرنسا وساستهم على المسلمين من غير أن يستشيروهم أو يعرفوا
ما يكتبه الأحرار العارفون بالدين وأهله عنهم، ولكن بعض حكامهم يستكتبون بعض
المصانعين لهم ما أرادوا ويغشون أنفسهم وقومهم بما يوهمونهم أن هذا هو رأي
علماء المسلمين وأهل الرأي فيهم. أكثر ما يكتبه الفرنسويون عن الإسلام
والمسلمين يُحفظ القلوب ويثير الأحقاد ويخرج الأضعان وكل هذا يُحْتَمَل ما دامت
القوة، فإذا عرض عليها ما يضعفها فهناك يحصدون شر ما يزرعون. وليس من
العقل الاغترار بدوام القوة.
الفرنسيون أبعد الناس عن الدين وعن التعصب له، ولكنهم إذا كتبوا عن
الإسلام فإنما ينفثون السموم ويُظلون المسلمين بظل من يحموم، إلا ما كان من
فيلسوف حكيم يكتب للعلم لا للسياسة. حكومة الجمهورية ليست مسيحية فتتعصب
على الإسلام لأجل النصرانية، وإنها لتقاوم النصرانية في بلادها كما تقاوم الإسلام
في مستعمراتها، ولكنها تعتقد أن المسلمين قوم حرب وأن دينهم يطالبهم بأن يكونوا
سائدين غير مسودين، وأنهم يتربصون بمن يسودهم الدوائر حتى إذا ما سنحت لهم
الفرصة وثبوا، فسلبوا ونهبوا، وأن السياسة الواقية أن يوضعوا في الأوهاق،
وتغل الأيدي إلى الأعناق، وأن تحجب شمس العلم عن الأنظار، وتحول بين
السماع وما في الإسلام من الأخبار، وأن تراقب الحكومة السائحين، إذا كانوا
مسلمين أو عثمانيين؛ ومن الاعتقاد ما هو ظن و {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: ١٢) ولا شيء يحرج الصدور، ويُمِضُّ النفوس مثل هذه المعاملة
السوءى؛ لأنها برهان على أن هذه الحكومة تبغض المسلمين، والجاهل لا يعرف
سببًا للعداوة والبغضاء إلا الأمر العام وهو الدين؛ لذلك يعتقد الأكثرون في
المستعمرات الفرنسية أن فرنسا تبغض المسلمين؛ لأنهم مسلمون يعبدون الله من
دون المسيح ويؤمنون بمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
نحن والعقلاء نقول: إن الأمر ليس كذلك، ومثلنا من يقدر على إقناع المسلمين
لأننا من خَدَمَةِ الدين والعلم فيهم، ولكن هذا الإقناع يتوقف على وصول صوتنا إلى
تلك المسامع وفرنسا لا ترضى بذلك بل ولا ترضى بأن يتعلم المسلمون إلا اللغة
الفرنسية التي تزيد المسلمين بغضًا في فرنسا كما صرح بذلك بعض كتباها وذلك
أنهم يرون في الكتب والجرائد الفرنسية الطعن الموجع مصوبًا دائمًا إلى صدور
المسلمين. وفرنسا أقدر منا على إقناع المسلمين بحسن نيتها وسلامة عاقبتها إذا
برهنت عليه بالعمل ولكن يتعذر علهيا إقناع مسلم واحد بالقول وإن أوتيت من سحر
البيان؛ وخلابة اللسان ما لم يؤته إنسان.
فرنسا في شك مريب من أمر مسلمي مستعمراتها لا تدري أيمكن أن تعيش
معهم في وئام وهدوء وسلام، أم ذلك من الأماني والأوهام التي لا تدرك ولا تُرَام،
ولا شك عندنا نحن في الإمكان، والمرتاب لا يقنعه البرهان، ولكن ربما تقنعه
حوادث الزمان، والمريب يكون دائمًا في حذر، والظالم لا يمكن أن يأمن الغير ولو
أخلصت فرنسا التنبيه، لعرفت القضية، وبلغت الأمنية.
لو أطلقت فرنسا لأهل الجزائر حرية العلم والدين وحافظت فيهم على أحكام
شريعتهم وآدابها وساعدتهم على ترقي بلادهم وعمرانها وأقامت فيهم العدل وأباحت
لكل أحد أن يمازجهم ويرى ما هم فيه حينئذ من غبطة ونعيم لكانت هذه المعاملة
الحسنى أقوى جاذب يجذب جيرانهم المراكشيين إلى الدخول في حكم الولاية
الجزائرية قبيلاً بعد قبيل لا سيما إذا جعلت للولاية حاكمًا مسلمًا يصدر الأحكام
الشرعية وينفذها.
قد نعلم أن من الفرنسيين من يسخر من هذا الكلام إذا سمعه متوهمًا أننا نقوله
خداعًا لهم لا عن اعتقاد منا بصحته. ولا يعلم الساخر المفروض أننا أقرب إلى
الشك في كون إحسانهم معاملة المسلمين خيرًا للمسلمين منا إلى الشك فيما قلناه، فإن
الظلم والقسوة في المعاملة هي التي تربي الأمم وترجع إليها استعدادها المفقود، أو
تبعث فها استعدادًا لم يكن بالموجود، ولقد كانت الحرب الروسية العثمانية أكبر
منبه للمسلمين إلى الحياة الاجتماعية في مشارق الأرض ومغاربها، وإن كانت أكبر
خسارة على المسلمين في الظاهر. وإن ساسة المسلمين وعقلائهم من يعتقد أن
نجاح الإسلام الأكبر يتوقف على سقوط كل هذه الحكومات الإسلامية التي بقيت لها
رسوم مماثلة فإن أعظم دواء المسلمين الاجتماعية اعتمادهم على حكوماتهم واستبداد
حكامهم بهم فلن تعود إليهم قوتهم الحقيقة واستقلالهم الذاتي إلا بسقوط هذه الرسوم
ليرجعوا إلى قوتهم الذاتية الاستقلالية.
بم يفسر مسلمو الجزائر وتونس وغيرهم عداوة فرنسا للسيد المهدي السنوسي
وهو من رجال الدين وشيوخ الطريق، ولماذا يكتب الفرنسيون في جرائدهم وكتبهم
أنه لا بد من استئصال قوته، واصطلام دعوته وإخماد جذوته، كما كان بَيَّنَا في
العدد ٢٣ من منار السنة الأولى ولماذا لا يحفل الإنكليز بذلك ولا يبحثون عن زواياه
وأتباعه في السودان ومصر ولماذا لم يكتب أحد من الإنكليز ناصحًا قومه ومبينًا لهم
الحيل والدسائس التي تفتت القوة السنوسية؟ إن سياسة فرنسا في أفريقيا خرقاء
وربما تكشف هذه المناوشات الأخيرة بينها وبين المهدي السنوسي خرقها إلا إذا أراد
الله لها زيادة الاستدراج والإملاء إلى أجل مسمى وإلى الله المصير.
(يطلب خبر محاربة فرنسا والسيد المهدي السنوسي في باب الأخبار)