للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى

قد وجد فينا علماء كان أحدهم يطلع في الكتاب أو السنة على أمر أو نهي
فيلقاه على حسب فهمه ثم يُعدي الحكم إلى أجزاء المأمور به أو المنهي عنه أو إلى
دواعيه أو إلى ما يشاكله، ولو كان من بعض الوجوه، وذلك رغبة منه في أن يلتمس
لكل أمر حكمًا شرعيًّا، فتختلط الأمور في فكره وتشتبه عليه الأحكام ولا سيما من
تعارض الروايات فليلتزم الأشد ويأخذ بالأحوط ويجعله شرعًا، منهم من توسع
فصار يحمل كل ما فعله أو قاله الرسول عليه السلام على التشريع، والحق كما
سبق لنا ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وفعل أشياء كثيرة على سبيل
الاختصاص أو الحكاية أو العادة، ومنهم من تورع فصار لا يرى لزومًا لتحقيق
معنى الآية أو للتثبت في الحديث إذ كان الأمر من فضائل الأعمال فيأخذ بالأحوط
فيعمل في الشديد ويظن الناس منه لك ورعًا وتقوى ومزيد علم واعتناء بالدين
فيميلون إلى تقليده ويرجحون فتواه على غيره.
وهكذا عظم التشديد في الدين بالتمادي حتى صار إصرًا وأغلالاً فكأننا لم نقبل
ما مَنَّ الله به علينا من التخفيف، وأن وضع عنا ما كان على غيرنا من ثقل
التكليف، قال تعالى شأنه وجلت حكمته: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: ٧٨) ، وقال جلت منته مبشرًا: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: ١٥٧) أي يخفف عنهم التكاليف الثقيلة. وعلمنا كيف
ندعوه بعد أن بَيَّن لنا أنه {َلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) وهو
أن نقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (البقرة: ٢٨٦) وقال تعالى: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: ١٧١) وقد ورد في الحديث (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) [١] حديث
آخر (هلك المتنطعون) أي المتشددون في الدين وظن بعض الصحابة أن ترك
السحور أفضل بالنظر إلى حكمة تشريع الصيام فنهاهم النبي عليه السلام عن ظن
الفضيلة في تركه، وقال عمر رضي الله عنه في حضور رسول الله لمن أراد أن
يصلي النافلة بالفرض: بهذا هلك من قبلكم فقال النبي عليه السلام: أصاب الله
بك يا ابن الخطاب وأنكر النبي عليه السلام على عبد الله بن عمرو بن العاص التزامه
قيام الليل وصيام النهار واجتناب النساء، وقال له: (أرغبت عن سنتي؟ فقال، بل
سنتك أبغي، قال: فإني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء فمن رغب عن
سنتي فليس مني) وقد كان عثمان بن مظعون وأصحابه عزموا على سرد الصوم وقيام الليل والاختصاء، وكانوا حرموا الفطر على أنفسهم ظنًّا أنه قربة إلى
ربهم فنهاهم الله عن ذلك؛ لأنه غلُّو في الدين واعتداء فيما شُرِّعَ فأُنزل {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (المائدة: ٨٧) أي أنه لا يحب من تعدى حدوده وما رسمه من الاقتصاد في
أمور الدين، وقد ورد في الحديث الصحيح قوله عليه السلام: (والذي نفسي بيده
ما تركت شيئًا يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئًا
يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا نهيتكم عنه) فإذا كان الشارع يأمر بالتزام
ما وضع لنا من الحدود فما معنى نظرنا الفضيلة في المزيد، وورد في حديث
البخاري (إن أعظم المسلمين جُرمًا من سأل عن شيء لم يُحَرَّم فَحُرِّم من أجل
مسألته) وبمقتضى هذا الحديث نقول: ما أحق بعض المحققين المتشددين بوصف
المجرمين.
وهذه مسألة السواك مثلاً فإنه ورد عن النبي صلى الله وعليه وسلم فيها
أنه قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) فهذا الحديث مع صراحته
في ذاته أن السواك لا يتجاوز حد الندب جعله الأكثرون سنة وخصصه بعضهم بعود
الأراك، وعمَّم بعضهم الإصبع وغيرها بشرط عدم الإدماء، وفصّل بعضهم أنه إذا
قصر عن شبر وقيل: عن فتر كان مخالفًا للسنة، وتفنن آخرون بأن من السنة أن
تكون فتحته مقدار نصف الإبهام ولا يزيد عن غلظ إصبع، وبيَّن بعضهم كيفية
استعماله فقال يسند ببطن رأس الخنصر ويمسك بالأصابع الوسطى ويدعم بالإبهام
قائمًا، وفصَّل بعضهم أن يبدأ بإدخاله مبلولاً في الشدق الأيمن ثم يراوحه ثلاثًا ثم
يتفل وقيل: يتمضمض ثم يراوحه ويتمضمض ثانية وهكذا يفعل مرة ثالثة، وبحث
بعضهم في أن هذه المضمضة هل تكفي عن سنة المضمضة في الوضوء أم لا،
ومن قال لا تكفي احتج بنقصان الغرغرة، واختلفوا في أوقات استعماله هل هو في
اليوم مرة أو عند كل وضوء أو عند تلاوة القرآن أيضًا حتى صاروا يتبركون بعود
الأراك يخللون به الفم يابسًا والبعض يعدون له كثيرًا من الخواص منها: إذا وضع
قائمًا يركبه الشيطان والبعض خالف فقال: بل إذا ألقي يورث مستعمله الجذام،
ويتوهم كثير من العامة أن السواك بالأراك من شعائر دين الإسلام إلى غير هذا من
مباحث التشديد والتشويش المؤديين إلى الترك على عكس مراد الشارع عليه السلام
من الندب إلى تعهد الفم بالتنظيف كيف ما كان.
ثم قال (العالم النجدي) : هذا ما ألهمني ربي بأنه في هذا الموضوع، وربما
كان لي فيه سقطات ولا سيما في نظر السادات الشافعية من الإخوان كالعلامة
المصري والرياضي الكردي؛ لأن غالب العلماء الشافعية يحسنون الظن بغلاة
الصوفية ويلتمسون لهم الأعذار وهم لا شك أبصر بهم منا معاشر أهل الجزيرة لفقدانهم
بين أظهرنا كليًّا ولندرتهم في سواحلنا ولولا سياحتي في بلاد مصر والغرب والروم
والشام لما عرفت أكثر ما ذكرت وأنكرت إلا عن سماع ولكنت أقرب إلى حسن
الظن ولكن ما بعد العيان لتحسين الظن مجال، وما بعد الهدى إلا الضلال، فنسأل
الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل.
فأجابه (العلامة المصري) أن أكثر الصوفية من رجال مذهبنا معاشر
الشافعية نتأول لهم كثيرًا ما ينكره ظاهر الشرع ونلتمس له وجوهًا ولو ضعيفة لأننا
نرى مؤسسي التصوف الأولين كالجنيد وابن سبعين من أحسن المسلمين حالاً وقالاً.
وفيما يلوح لي أن منشأ ذلك فينا جملة أمور منها: كون علماء الشافعية بعيدون
عن الإمارة والسياسة العامة إلا عهدًا قصيرًا. ومنها كون المذهب الشافعي مؤسسًا
على الأحوط والأكمل في العبادات والمعاملات أي على العزائم دون الرخص ومنها
كون المذهب مبنيًا على مزيد العناية في النيات. فالشافعي في شغل شاغل بخويصة
نفسه وهو مستمر من جهة دينه ومحمول على تصحيح النيات وتحسين الظنون ومن
كان كذلك مال بالطبع إلى الزهد والإعجاب بالزاهدين وحمل أعمال المتظاهرين
بالصلاح على الصحة والإخلاص بخلاف العلماء الحنفية فإنهم من عهد أبي يوسف
لم ينقطع تقاربهم في النظر في الشئون العامة في عموم آسيا وكذا المالكية في
الغرب وإمارات أفريقيا والحنابلة والزيدية في الجزيرة ومن لوازم السياسة الحزم
وتغليب سوء الظن وإتقان النقد والأخذ بالجرح ومحاكمة الشئون لأجل العمل
بالأسهل الأنسب.
وقد امتاز أهل الجزيرة في هذا الخصوص بأنهم كانوا ولايزالون بعيدين عن
التوسع في العلوم والفنون وهم لم يزالوا أهل عصبية وصلابة رأي وعزيمة، وقد
ورد قول النبي عليه السلام فيهم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المسلمون في
جزيرة العرب ولكن في التحريش) أي إغراء بعضهم ببعض، وكذلك أهل
الجزيرة لم يزل عندهم بقية صالحة كافية من السليقة العربية فإذا قرأوا القرآن أو
الحديث أو الأثر أو السيرة يفهمون المعنى المتبادر باطمئنان فينفرون من التوسع في
البحث ولا يعيرون سمعًا للإشكالات فلا يحتاجون للتدقيقات والأبحاث التي تسبب
التشديد والتسويش، وأما غيرهم من الأمم الإسلامية فيتلقون العربية صنعة
ويقاسون العناء في استخراج المعاني والمفهومات ومن طبيعة كل كلام في كل لغة
أنه إذا مخضته الأذهان تشعبت وتشتت فيه الأفهام.
وربما جاز أن يقال في السادة الشافعية - ولا سيما في علماء مصر منهم -:
إن انطباعهم على سهولة الانقياد سهل أيضًا دخول الفنون الدينية المستحدثة عليهم
ودماثة أخلاقهم تأبى عليهم إساءة الظن ما أمكن تحسينه فلذلك حازت هذه الفنون
التصوفية المستحدثة قبولاً عند علماء الشافعية الأولين.
هذا وحيث قلنا: إن من خلق المصريين سهولة الانقياد ولا سيما للحق وكذلك
علماء الشافعية الأكراد كلهم أهل نظر وتحقيق فلا يصعب حمل الشافعية على النظر
في البدع الدينية خصوصًا ما يتعلق منها بمظنات الشرك الجالب للمقت والضنك ولا
شك أنهم يمتثلون أوامر الله في قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: ٥٩) وقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:
٢٤) وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: ٣) هذا وكثير من علماء الشافعية الأقدميين والمتأخرين
المنتصرون للمذهب السلفي السديد، المقاومون للبدع والتشديد، والحق أن
التصرف المتغالى فيه لا تصح نسبته لمذهب مخصوص فهذا الشيخ الجيلي
رضي الله عنه حنبلي وصوفي.
قال (الأستاذ الرئيس) : إن أخانا العالم النجدي يعلم أن ما أفاض به علينا لا
غبار عليه بالنظر إلى قواعد الدين وواقع الحال وكفى بما استشهد به من الآيات
البينات براهين دامغة، ولله على عباده الحجة البالغة، وعبارة التردد التي ختم بها
خطابه يترك بها الحكم لرأي الجمعية ما هي إلا نزعة من فقد حرية الرأي والخطابة
فأرجوه وسائر الإخوان الكرام أن لا يتهيبوا في الله لومة لائم، ورأي كل منا هو
اجتهاده وما على المجتهد سبيل، وليعلموا أن رائد جمعيتنا هذه الإخلاص، فالله
كافل بنجاحها، وغاية كل منا إعزاز كلمة الله، والله ضامن إعزازه قال تعالى:
{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: ٧) .
نعم هذا النوع من الإرشاد أعني الانتقاد على الاعتقاد هو شديد الوقع والصدع
على التائهين في الوهلة الأولى؛ لأن الآراء الاعتقادية مؤسسة غالبًا على الوراثة
والتقليد دون الاستدلال والتحقيق وجارية على التعاون دون التقانع، على أن
أعضاء جميعتنا هذه وكافة علماء الهداية في الأمة يشربون والحمد لله من عين واحدة
هي عين الحق الظاهر الباهر الذي لا يخفى على أحد فكل منهم يختلج في فكره ما
يخالج فكر الآخرين عينه أو شبهه لكنه يهيب التصريح به لغلبة الجهل على
الناس واستفحال أمر المدنسين ويخاف من الانفراد في الانتقاد، في زمان فشا فيه
الفساد، وعم البلاد والعباد، وقلَّ أنصار الحق، وكثر التخاذل بين الخلق.
ويسرني والله ظهور الثمرة الأولى من جمعيتنا هذه، أعني اطمئنان كل منا
على إصابة رأيه واطلاعه على أن له في الآفاق رفاقًا يرون ما يراه ويسيرون
مسراه، فيقوى بذلك جنانه، وينطلق لسانه، فيحصل على نشاط وعزم في إعلاء
كلمة الله ويصبح غير هياب لوم اللائمين، ولا تحامل الجاهلين، ومن الحكمة
استعمال اللين والتدريج والحزم والثبات في سياسة الإرشاد كما جرى عليه الأنبياء
العظام عليهم الصلاة والسلام وقد بسطت ذلك في اجتماعنا الأول وسنلاحظه في
قانون الجمعية الدائمة الذي نقرره إن شاء الله بعد استيفاء البحث في طريقة
الاستهداء من الكتاب والسنة في اجتماعاتنا الآتية، أما اليوم فقد انتهى وانتصف
النهار.
((يتبع بمقال تالٍ))