للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(حرب فرنسا والسنوسي)
كتب بعض كبار التجار في طرابلس الغرب إلى صديق له في بعض البلاد
وكان سأله عن أخبار بلادهم ما نصه بحروفه:
(ورد لنا جواب من بُومَه تاريخ ١٩ ماي أفرنجي ووصل لطرفنا تاريخ ١٤
ربيع أول سنة ١٣٢٠ قال فيه بعد السلام: وبعد، أخي فقد تم البحث الذي وقع عليّ
كما أخبرتك في شأن سيدي المهدي (يعني الشيخ السنوسي) ولما أن كانت نيتي
طبق الإحسان والصدق مع الله تعالى وخلقه سلمت والحمد لله على كل حال، والآن
أنا سافرت إلى فرانسة ثم أرجع إلى قسطنطينة الجزائر ثم أسافر من هناك ثانيًا،
فالمطلوب من فضلك الكريم أن تجعل لنا جوابًا على كل مسألة داخل جوابنا هذا
وتسأل خليفة سيدي المهدي ولا تذكر لي إلا الخبر الصحيح.
أولاً: ما هي الأخبار الواردة لكم من ناحية داركانم وألبركو وزاوية الشيخ
سيدي المهدي بعد ما وقع بعد من الحرب بين الفرنسيس وعرب أولاد سليمان
والتوارق واستيلاء فرانسة على بيرهلالي.
ثانيًا: هل يرضى الشيخ سيدي المهدي بالصلح مع دولة فرانسة بواسطتي فإن
كان يقبل، وإن كان غرضه العافية لصلاح الجميع فَخَبِّرْنِي بذلك فأكلم الدولة
الفرنساوية ويكون الخير إن شاء الله وإن كان نيته الحرب مع فرانسة والجهاد فخبرني
وانصحني وقل للخليفة يعرفك بالحقيقة ولا يستخوش مني أبدًا. لا بد تعرفني بحقيقة
الأمر وإن وجب السفر إلى طرابلس فعرفني أقدم إلى طرفك؟
ثالثًا: ما بلغ إليكم من أخبار واداي؟
رابعًا: ما هي أحوال إخوان طريقة سيدي المهدي مع دولة الأتراك هل اعتقاد
الإخوان مثل الزمان الأول أم لا؟
خامسًا: من مات من الأعيان في المحاربة التي وقعت في بير هلالي علمي
بذلك الشيخ سعد البراني والشيخ غيط والشيخ شرف الدين وغيرهم. اهـ
قال التاجر: (حاصله: وقعت محاربة كبيرة بين دولة فرنسة والشيخ سيدي
المهدي وأكلتها دولة فرنسة وإن الجواب الوارد لنا هو من نفس مهندس من طائفة
فرنسة نحن نرسله إلى جغبوب ونحكي لهم بالكيفية وهم يعرفون شغلهم، ربنا ينصر
الإخوان على القوم الكافرين! وبر السوادين واقع فيه حرب واليوم صار لدولة فرنسة
مع المهدي مثل ما صار للإنكليز مع الترانسفال ندعو الله أن يهلك دولة فرنسة.
وأرسلنا جواب إلى رحب خوجة المذكور وعرفناه هذه المسألة لا تهمنا والسلام.
اهـ مكتوب التاجر.
والقارئ لهذا الكتاب يظهر له أنه كتب عن معرفة وأنه صدق لا شبهة فيه ولكن
فيه شيئًا من الإبهام. قال الذي أرسل صورته إلينا: حبذا لو علمنا من هو صاحب
التحرير المرسل إلى التاجر وأين هي بلدة بُومَة؟ وما معنى قوله: تم البحث الذي
وقع عليّ؟ وقد ذكر التاجر صاحب المكتوب أنه مهندس طائفة فرنسا وسماه رحب أو
رجب خوجه. فما هذا السر؟ هل الرجل مسلم كما يظهر من كلامه أو مسلم جغرافي
(كما تقولون في المنار) يريد أن ينتفع من فرصة الخلاف بين السنوسي وفرنسا؟
أو هو مسلم من مسلمي الجزائر وتونس موظف عند فرنسا ويريد أن يخدمها
ويخدم سيده المهدي؟ وربما كان قوله: (تم البحث) إلخ إشارة إلى أنهم فتشوا عليه
لكونه جاسوسًا من قبل المهدي أو متهمًا بالتجسس. والذي حملني على هذا الظن قوله
في آخر الجملة: (سَلِمتُ) . ويفيد قوله: (وتسأل خليفة سيدي المهدي) أن للمهدي
خليفة مقيمًا في طرابلس الغرب. والذي يجعل في النفس ريبة من قول صاحب
المكتوب هو قوله: (ولا يستخوش مني أبدًا) وقوله: (ما هي أحوال الإخوان مع
دولة الأتراك) إلخ
أما نحن فنعلم أن للسيد المهدي السنوسي خلفاء في طرابلس وكل بلاد أفريقية
الشمالية والوسطى وصحاريها ونرجح أن المهندس صاحب المكتوب جاسوس
فرنسي كما أنه مهندس ولذلك لم يجاوبه التاجر عن أسئلته.
***
(مسيح الهند والمنار)
سبق لنا رد على القائم في الهند المدعي أنه المسيح الموعود به وعلى كتابه
الذي سماه إعجاز المسيح، وإن كان قوله كالريح , وسجعه دون سجع شق وسطيح،
وقد ترجمت رد المنار عليه الجرائد الهندية , وأذاعته في تلك الممالك القصية،
فاستشاط الرجل غضبًا وملأ النواحي سبابًا وصخبًا، والمؤمن ليس بسبَّاب ولا
بذيء ولا صخاب، فهل يكون المرسلون والمسحاء من أهل السفه والبذاء، وهل
ينزل الوحي على أهل الإلهام، وتقام الحجة على الأنام بالسخرية والاستهزاء،
والقول الهراء والانتصار للنفس، ومكابرة الحس، والتنفج والتبجح، والتجرم
والتذقح، كما فعل هذا المدعي في الكتاب الذي لفقه في الرد على (المنار) فكان
مجلبة الخزي والعار وقد سماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) وما عهدت الهداية بشتم
الورى.
بعد أن أهدى إلينا كتابه وأرسل شتمه وسبابه. كتب إلينا أحد كبار علماء
الهند من لاهور كتابًا يشكو فيه من انتشار البدع في الهند وقال فيه: (الآفة التي لا
تذكر، والعاهة التي لا تسطر هي فتنة المسيح الدجال الهندي الشهير بميرزا غلام
أحمد القادياني. فهي لا تنقطع كسير السواني، وهو في زعمه الباطل مجدد مهدي
ملهم محدث مسيح مرسل إمام عند شرذمة قليلين. ما لهم من دنيا ولا دين، والحق
أنه رجل خَتَّال ختار، بَطَّال شطار، يدعي الوحي والنبوة، ويثبت للمسيح البنوة،
ويحرف آيات القرآن بتأويلات فاسدة، ويتنطع في أحاديث النبي بخزعبلات كاسدة،
ثم ذكر هذا العالم مجادلته لعلماء الهند وإفحامهم اياه وانصرافه لدعوة العلماء في غير
الهند ومنهم الفقير صاحب المنار.
وانتقل من هنا إلى ذكر ردنا على كتابه (إعجاز المسيح) وذكر أن الجرائد
الهندية نقلته عن المنار، وكان له شأن في تلك الديار، أثار من ذلك المدعي أشجانه،
وأطلق بالسب لسانه، ثم رغب إلينا في الرد عليه وقال: (فإن لتحريركم وقعًا في
النفوس، أشد من حرب البسوس) .
نعم إن من وظيفة المنار الرد على هذا المدعي، ولو لم يرغب إلينا فيه ذلك
العالم الألمعي، ولكن الرد إنما يكون على الشبهات التي تساق مساق البينات وليس
لهذا المدعي شبهة يستند إليها، ولا تكأة يتوكأ عليها، إلا ذلك المؤلف الذي هو حجة
عليه، بل سهام منه تصوب إليه فقد ادعى أنه معجز للبشر لا تأتي بمثله القوى
والقُدَر، فما هو وجه الإعجاز فيه. الذي جعله عمدة تَحَدِّيه؟ إن قال: إن العمدة هي
قصر المدة، فإنني ألفته في سبعين ولا يقدر على مثل ذلك أحد من العالمين، نقول:
أولاً: إننا لا نصدقك في هذا التحديد على أنه طويل، فهل لك عليه من بينة
ودليل؟
وثانيًا: إن كثيرًا من العلماء ألفوا كتبًا طويلة في مدة قليلة. ولم يدعوا أن ذلك
من المعجزات؛ لأنه ليس من خوارق العادات فالفناري ألف شرحه على
الأيساغوجي في يوم من أقصر الأيام ولم يتحدَّ به أحدًا من الأنام.
وثالثًا: إننا نطلب منه محكمين من أهل الإنصاف، يرضى بهم كل منا ومنه
للحكم في مواضع الخلاف، وعند ذلك نظهر له أغاليط كتابه في اللفظ والفحوى،
والعاقبة كما قال الله تعالى للتقوى، ليعلم الناس أن تحدي النبوة والرسالة، لا يكون
بالخطأ والجهالة، وأن ادعاء إقامة الدين وتأييد الشريعة لا يكون بتقويض أركانهما
الرفيعة، وتشويه محاسنها السنية السنيعة، وأن إصلاح نفوس المسلمين لا يكون
بشتم خاتم النبيين. وموعدنا الجزء الآتي.
أما الآن فإننا نذكر بعض عباراته في الرد علينا، وما وجه من الطعن إلينا،
ليعلم القراء مبلغ آدابه، وعسلطته في خطابه، قال بعدما زعم أنه آثرنا بكتابه
(إعجاز المسيح) على علماء الحرمين والشام والروم ما نصه:
(ثم لما بلغ كتابي صاحبَ المنار، وبلغه معه بعض المكاتيب للاستفسار، ما
اجتنى ثمرة من ثمار ذلك الكلام، وما انتفع بمعرفة من معارفه العظام، ومال إلى
الكلم والإيذاء بالأقلام، كما هو عادة الحاسدين والمستكبرين من الأنام، وطفق يؤذي
ويزري غير وان في الإزراء والالتطام، ولا لاو إلى الكرم والإكرام، كما هو سيرة
الكرام وعمد أن يؤلمني ويفضحني في أعين العوام كالأنعام، فسقط من المنار الرفيع
وألقى وجوده في الآلام، ووطئني كالحصى، واستوقد نار الفتن وحضى، وقال ما
قال وما أمعن كأولي النُّهى، وأخلد إلى الأرض وما استشرف كأولي التقى، وخر
بعدما علا وإن الخرور شيء عظيم فما بال الذي من المنار هوى، واشترى الضلالة
وما اهتدى أم له في البراعة يد طولى، سيهزم فلا يرى، نبأٌ من الله الذي يعلم السر
وأخفى.
ثم قال: (وكنت رجوت أن أجد عندك نصرتي، فقمت لتندد بهواني وذلتي،
وتوقعت أن يصلني منك تكبير التصديق والتقديس، فأسمعتني أصوات النواقيس
وظننت أن أرضك أحسن المراكز، فجرحتني كاللاكز والواكز، وذكرتني بالنوش
والنهش والسبعية، نبذًا من أيام الخصائل الفرعونية، ولست في هذا القول كالمتندم،
فإن الفضل للمتقدم، وكنت أتوقع أن يتسرى بمواخاتك همي، ويرفض بجندك كتيبة
غمي، فالأسف كل الأسف أن الفراسة أخطأت، أي: فلم يصدق عليه حديث (اتقوا
فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) ؛ لأنه ينظر بظلمة غروره والروية ما تحققت
ووجدت بالمعنى المنعكس ريّاك (وهنا إشارة قبيحة تليق بقائلها ولا تليق بنزاهة من
يصطفيهم الله تعالى لهداية خلقه) فهذه نموذج بعض مزاياك، (أنث النموذج
وكم كنت مذكرًا) وعلمت أن تلك الأرض أرض لا يفارقها اللظى، وتفور منها إلى
هذا الوقت نار الكبر والعلى، فعفى (كذا) الله عن موسى لِمَ تركها وما عفّى
(وههنا أساء الأدب مع سيدنا موسى الكليم ونسب إليه الخطأ والذنب والتقصير، على
أن تعفية مصر وإهلاكها بيد الله لا بيده عليه السلام) .
ثم قال بعد مكابرة في ردنا على كتابه ونسبته للغلط والتكلف ما نصه:
وحسبتك حبيبًا يريحني كنسيم الصباح، فتراءيت كعدو شاكي (كذا) السلاح،
وخلت أنك تهدر بصوت مبشر كالحمام، فرأيت وجهك المنكر كالحمام، وأعجبني
حدتك وشدتك من غير التحقيق (كذا) فأخذني ما يأخذ الوحيد الحائر عند فقد الطريق،
لكني أسررت الأمر وقلت في نفسي: لعله تصحيف في التحرير، وما عمد إلى
التوهين والتحقير، وكيف قصد شرًّا لا يزول سواده بالمعاذير. وكيف يمكن الجهر
بالسوء، من مثل هذا النحرير (يذم ويمدح) ولما تحققت أنه منك تقلدت أسلحتي
للجهاد، وقلت: مكانك يا ابن العناد، وعلمت أنك ما تكلمت بهذه الكلمات، إلا حسدًا
من عند نفسك لا لإظهار الواقعات، (إنني لا أدعي المسيحية فأحسده على دعواها
ولا شيء آخر يحسد عليه) فابتدرت قصدك، لئلا يصدق الناس حسدك، فإن
علماء ديارنا هذه يستقرون حيلة للإزراء، فيستفزهم ويجرئهم عليّ كلما قلت
للازدراء، ولولا خوف فسادهم لسكت وما تفوهت وما تجلدت، ولكن الآن أخاف
على الناس، وأخشى وسوسة الخناس، وإن بعض الشهادات أبلغ من الضرب
بالمرهفات، فأخاف أن يتجدد الاشتعال من كلمات المنار، ويسقط ميمه ويبقى على
صورة النار) .
ثم ادعى أنه كان غلب علماء الهند وسرق سجعات من كلام الحريري، وقال:
(فالآن أحيي اللئام بعد الممات، وشد المنار عضدهم بالخزعبيلات (كذا)
فأرى أنهم يتصلفون، ويستأنفون القتال، ويبغون النضال، ويخدعون الجهال،
ورجعوا إلى شرهم وزادوا صدًّا، بما جاء المنار شيئًا إدًّا وجاز عن القصد جدًّا (كذا
بالزاي والحريري استعملها بالراء من الجور) فأكبر كلمه حزب من العمين إلخ.
ثم ذكر أنه كثيرًا ما كان يغضي عن المعترضين والمزدرين وقال: (ولكن
رأيت أن صاحب المنار، عظم في عين هذه الأشرار، (كذا) وأكبر شهادته بعض
زاملة المنار، وكانوا يذكرونها بالعشي والأسحار، فبلغني ما يتخافتون، وعثرت
على ما يسرون ويأتمرون، وأخبرت أنهم يضحكون علي، وفي كل يوم يزيدون)
إلى أن قال في صاحب المنار: (بل أصر على الإزراء في الجريدة فأكل
الحاسدون حصيدة لسانه كالعصيدة، وتلقفوا قوله وجددوا الخصومة بعدما قطعوها
كما هو من شيم القرائح البليدة، وحسبوا كلمه كالأسلحة الحديدة وأشاعوها في
الأخبار (الجرائد) والجوائب الهندية وكتبوا كلمًا يشق سماعها على الهمم البريئة
المبرءة، وآذوا قلبي كما هي عادة الرذل والسفهاء وسيرة الأراذل من الأعداء) ثم
قال: (وما أتظنى أن يكتب المنار من معارف كمعارف كتابي ويرى بريقًا كبريق ما
في قرابي، ثم مع ذلك تناجيني نفسى في بعض الأوقات أنه ما عمد إلى الاحتقار
والنطح كالعجماوات، بل أراد أن يعصم كلام الله من صغار المضاهات وإنما الأعمال
بالنيات) (وههنا حاشية في الأصل ذكر فيها أنه يظن أن سبب غيظي منه حكمه
بمنع الجهاد) فإن كان هذا هو الحق فلا شك أنه ادخر لنفسه بهذه المقالات، كثيرًا من
الدرجات، وأي ذنب على من سبني لحماية الفرقان، لا للاحتقار وكسر الشان) إلى
أن قال: (ولكني معتذر كمتل اعتذاره، فإن الفتن قد انتشرت من أقواله وأخباره)
إلخ إلخ.