للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الزواج وشبان مصر وشوابُّها

أكثرت الجرائد العمومية اليومية الخوض في هذه الأيام في مسألة اجتماعية
ذات بال وهي ميل كثير من الشبان المصريين إلى التزوج بالأوربيات، وإحجام كثير
منهم عن التزوج بالمرة، وزعم بعض الباحثين أن السبب في الأمرين هو عدم وجود
بنات مصريات (متربيات) يصلحن لشبان مصر (المتربين) .
وههنا شرح بعض الكتاب سوء حال تربية البنات ووصف من جهلهن وأطنب
في التنفير عنهن، وكنت أحب أن يكثر الكتاب البحث في تربية البنات في معرض
غير معرض تفضيل الزواج بالأوربيات والترغيب عن الزواج بالوطنيات.
المسألة كبيرة وفروعها متشعبة ولطريق البحث فيها نواشط كثيرة، وكأني بهذه
النواشط قد تمثلت أمامي فلا أدري أي ناشط أختار في ابتداء السير لأَصِلَ منه إلى
الطريق الأعظم. ولكنني أقول قبل كل قول: إن الذين تزوجوا بالأوربيات أو
يفضلون التزوج بهن هم أبعد المصريين عن التربية الصحيحة النافعة. وإن أكثر
الذين يتريثون بالزواج يتربصون الظفر بزوج غنية لا بزوج مهذبة متربية.
ثم أقول: إنه لا تربية عندنا للفتيان ولا للفتيات، وإن الإناث يقربن من الذكور
في الأخلاق والآداب والعادات والرغبات، ولكن الفرق بين الفريقين في التعليم،
فالمتعلمون أكثر من المتعلمات، ولكن أكثر هذا العلم مما لا يصح التفاضل فيه؛ لأنه
قليل التأثير في الحياة المنزلية والحياة القومية والحياة الملية. ولو ارتقى المتعلمون
في شئون الحياة لأصلحوا بيوتهم، ورأس إصلاح البيوت تربية البنات فكما يريد
الرجال يكون النساء؛ لأنهم القوامون عليهن والقوة بأيديهم فهم يسيرون العمران
كيف شاءوا ورب متفرنج غبي ينغض رأسه إذا سمع قولنا: كما يريد الرجال يكون
النساء. ويقول: إن هذا قول مَنْ لا يعرف الحقائق فإن الأوربيين يقولون: كما
يريد النساء يكون الرجال. رويديك أيها الغر المتفرنج إن في كلمة سادتك شيئًا من
المبالغة وإن كان نساؤهم وصلن إلى درجة من الاستقلال والعناية بالتربية بسعي
الرجال صار لهن بها شأن في تربية الأطفال يصح معها أن تقال هذه الكلمة فيهن
ولكن شأن بلادنا ونسائنا مباين لشئونهن.
التربية شيء والتعليم شيء آخر: التربية هي تعاهد القوى الجسدية والنفسية
ومساعدتها على الوصول إلى الكمال المستعدة له في أصل الفطرة حتى يكون
المربي إنسانًا كاملاً سويًا في خلقه، مهذبًا في خلقه، نافعًا لنفسه ولقومه، والتعليم
إيداع صور المعلومات في ذهن المتعلم، وقد وجد في مدارس مصر شيء من
التعليم الناقص ولكن التربية لم توجد في المدارس ولا في البيوت فما في الأمة من
الأخلاق والآداب الصحيحة فهو على قلته من سؤر ما تركه السلف الصالح من
التراث، وأشد الناس جناية عليه وإتلافًا له هؤلاء المتعلمون الذين انتفعوا بالتعلم
الجديد فصاروا ينفعون أنفسهم وأمتهم قليلون جدًّا، وإنما ساعدهم على الانتفاع
استعداد قوي في الفطرة وبعض الأخلاق والآداب المورثة؛ ولذلك يعد نجاحهم شذوذًا
لا نتيجة طبيعية لهذا التعليم الناقص في المدارس. وهؤلاء لا يَنصحون لشبان أمتهم
أن يتزوجوا بالأوربيات، وإنما ينصحون لهم أن يربوا ويعلموا البنات، وإذا
اشتكوا فإنما يشتكون من جهل الأغنياء وبخلهم إذ لا يسمحون بشيء من فضل مالهم
لإنشاء معاهد أهلية للتربية والتعليم.
أما تلك الحُثالة من سائر المتعلمين - وهم الأكثرون على أنهم قليل في مجموع
الأمة - فإنها لم تستفد من التعليم إلا رطانة لغة أوربية بها يتمكنون من معاشرة بغايا
الإفرنج مسافحات أو متخذات أخدان. وإن عقائل نساء الإفرنج ليترفعن ويستنكفن
أن يعاشرن هؤلاء الغلمان السفهاء الأحلام بَلْهَ الاقتران بهم وقبولهم بعولة لهن فهذا
التبجح الذي يتبجحه شباننا في الجرائد بعلمهم إنما هو التبجح بتفضيل البغايا
الأجنبيات على المحصنات الوطنيات.
لولا هؤلاء المتعلمون لما راج سوق الفحش في مصر، لولا هؤلاء المتعلمون
لما نشأ داء الزهري في البلاد؛ لولا هؤلاء المتعلمون لما فشا السُّكْر في القطر لولا
هؤلاء المتعلمون لما عُرِفَ الميسر والقمار في وادي النيل. لولا هؤلاء المتعلمون لما
فتن الناس بزخرف الأثاث والرياش والماعون التي تُجلب من أوربا فتذهب بثروة
البلاد. لولا هؤلاء المتعلمون لما خربت تلك البيوت العامرة التي ورثت الثروة
والمجد عن أب وجد، لولا هؤلاء المتعلمون لما انتهكت حرمات الدين وتركت فضائله
وسنته. فبماذا يفتخر هؤلاء المتعلمون المغرورون على البنات الأغرار الجاهلات؟
ولماذا يترفعون عليهن مع أن جهلهن لم يجن على الأمة والبلاد بعض ما جناه علم
أولئك المتبجحين المترفعين.
البنت الجاهلة تتربى في بيت زوجها تربية جديدة؛ لأن العذراء لا تستقر
أخلاقها وعاداتها على شيء إلا بعد الزواج كأنها قبل ذلك ترى كل شيء موقتًا غير
ثابت؛ لأنها في طور غير ثابت تنتظر في كل يوم الانتقال إلى الطور الذي بعده
الذي حكمت الفطرة بأن تقضي حياتها فيه؛ وهو كونها زوجًا لرجل ثم أمًّّّّّّّا لولد.
فليت شعري كم عدد المتعلمين الذين تزوجوا من هؤليَّا العذارى واشتغلوا بتربيتهن
ليعيشوا معهن عيشة راضية؟ كم عدد الذين أحصنوا بالزواج فرضوا بأزواجهن
حتى لا يَغْشَوْنَ المواخير ولا بيوت السر؟ ويا ليت شعري كم عدد البيوت التي كان
فيها هؤلاء المتعلمون صالحين مصلحين وأزواجهم فاسدات مفسدات؟ أظن بل أوقن
أن الرجال هم الذين يفسدون النساء بسوء المعاملة وقبح السيرة إلا ما جاء على
سبيل الشذوذ. فما بال تلك (الفتاة التعيسة) التي أرادت الدفاع عن أخواتها
التعيسات طفقت تذمهن وتهجوهن في مقالتها التي نشرتها في المؤيد توسلاً إلى كلمة
تسترضي بها الشبان في آخرها بأنهم مقصرون وبأن في البنات الآن من المتعلمات
من يليق بهم.
الغميزة الكبرى في تربية بنات مصر هي أنهن يكلمن هؤلاء الشبان
المغرورين ويعاشرنهم، وهذه الفتنة فاشية في المتعلمين والمتعلمات أكثر من فُشُوِّها
في الجالهين والجاهلات، والذنب في هذه الغميزة على الشبان فمنهم بدأت الفتنة
وإليهم تعود؛ لأنهم هم الذين يتعرضون لإغواء البنات، وقد حدثني غير واحد منهم
بأنه لا يكاد يوجد تلميذ إلا وله خليلة من البنات. ولكن لا تكاد توجد بنت بدأت شابًّا
بالمغازلة والمناغاة , فإذا كان هذا حظ شباننا المتعلمين من البنات فماذا ينقمون
عليهن من فساد التربية! أينقم بعضهم على من يحبها أنها لا تُحسن الرطانة بلغة
أوربية، كيف وهو أوسع مادة في المسائل التي يكلمها بها بلغته العرفية منه باللغة
الأجنبية؛ لأنهما لا يتكلمان إلا باللغو والهذيان الذي يناسب العشاق الذين لا تربية لهم
ولا تهذيب.
يوهمنا بعض الكتاب أن هؤلاء المتعلمين يود أحدهم أن تكون له زوجة
تعلمت مثلما تعلم تكون حياته معها إنسانية بالمذاكرات العلمية والأدبية لا حيوانية
محضة مقصورة على التمتع البهيمي.
ويا ليت هذا كان صحيحًا ولكن يحزننا ويمضنا أنه غير صحيح فإن موضوعات
حوارهم في أنديتهم وسمارهم دون ما يقتضيه علمهم الناقص، كأن فساد التربية
حال بينهم وبين الانتفاع بالعلم. ومن ذا الذي يطلب العلم ليعمل به أو ليكمل؟ كلنا
نعرف علة طلبهم للعلم. هي أخذ الشهادة التي تعدهم لوظائف الحكومة والغرض من
وظائف الحكومة الأكل مع الراحة لما جلبوا عليه من الكسل. نرى أحدهم يجد ويكد
قريحته بالحفظ مدة الدراسة حتى إذا ما نال ورقة الشهادة التي سماها بعض الأوربيين
(جلدة الحمار) قال: ذهب دور التعب والعناء وجاء دور التمتع؛ فيترك البحث
والمذاكرة في كل ما تعلمه إلا إذا كان رزقه منه كالمهندسين والأطباء وقليل ما هم.
إن من يدرس لحاجة كرشه وفرشه كالثور الذي يدرس ليأكل بل ربما كان الثور
أنفع منه؛ لأنه يأكل ويأكل غيره من عمله بدرس الحنطة، ولكن أكثر الذين يدرسون
العلم عندنا لا يأكلون ولا يأكل أحد من ثمرة دراستهم وهم الذين قال فيهم الشاعر:
ودرس ثورين قد شُدَّا إلى قرن ... أقنى وأنفع من تدريس حَبرينِ
أين أثر علم هؤلاء المتنفجين في التأليف أو العمل؟ أين الأندية والسمار
الأدبية؟ أين الجمعيات العلمية؟ أين الشركات الصناعية؟ أين الأعمال التجارية؟
أين التآليف النافعة في العلوم اللغوية أو العلمية أو الأدبية أو الدينية. أخرت ذكر
الدين؛ لأن أكثر المتعلمين؛ أجهل به من العامة الأميين، ولا يخفى أن الكلام كله في
المجموع لا في عموم الأفراد فإن من التلامذة من يرغب في العلم لفضله ونفعه
ومنهم من أحسن أهلُه أدبه وتربيته.
فيا معشر المتنفجين بالعلم - وإن كان الجهل خيرًا منه - إذا فتنتم بالأوربيات أو
استغنيتم بالسفاح عن الزواج الشرعي أو كنتم ترجئون الاقتران ليظفر أحدكم بامرأة
غنية يتنعم بمالها؛ لأن المدرسة ربته على الترف والكسل معًا - فأقسم عليكم بالشرف
الذي تذكرونه، والوطن الذي تتهمونه، بل أقسم عليكم بالله الذي تعبدونه أن لا
تعتذروا عن ذلك بغميزة أخواتكم والإزراء بأمهاتكم! ومن كان منكم يغار على قومه
وبلاده فليجتهد بتربية نفسه ثم تربية الأقرب فالأقرب، واعلموا أنه لو وجد عندنا
تربية وتعليم لوجد عندنا رجال وإذا وجد الرجال توجد النساء كما يريد الرجال
ويوجد المال ويوجد الاستقلال، فالرجال الذي عملوا كل شيء في الماضي وهم الذين
يعملون كل شيء في المستقبل، وخير لهم أن يكون نساؤهم عونًا لهم من أن
يكونوا كلاًّ عليهم، والسلام على من علم وعمل.