للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاجتماع الخامس لجمعية أم القرى

(في مكة المكرمة يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة ١٣١٦)
في الوقت المعين من هذا اليوم تكامل الاجتماع واستعدت الهيئة للمذاكرة
والسماع، وقرأ كاتب الجمعية ضبط الجلسة السابقة حسب القاعدة المرعية.
قال (الأستاذ الرئيس) : سنبحث بعد يومين في وضع قانون الجمعية الدائمة
وإني أرى أن نفوض للجنة منا من الذين سبق لهم دخول في جمعيات علمية أو
الذين لم وقوف على مباني الجمعيات القانونية ولا سيما الغربية المعروفة باسم
(أكاديميات) لتنظم لنا هذه اللجنة سانحة قانون نضعها تحت البحث في الجمعية.
وإني أكلف بهذه اللجنة أخانا السيد الفراتي؛ ليقوم بكتابتها وأخانا السعيد
الإنكليزي ليفيد اللجنة عما يعلمه عن الأكاديميات وعن مجربات جمعيات ليفربول
ورأس الرجا وإخواننا العلامة المصري والصاحب الهندي والمدقق التركي وهذا
يرأسهم؛ لأنه أسنّهم [١] وهؤلاء أعضاء فهل تَسْتَصْوِبُ الجمعية ذلك وترى فيه
الكفاية والكفاءة أم تستدرك شيئًا.
ثم ابتدر (السعيد الإنكليزي) للمقال مخاطبًا الأستاذ الرئيس فقال: إننا
مسلمي (ليفربول) حديثو عهد بالإسلام ولنا إشكالات مهمة تتعلق ببحث اليوم،
أعني بطريقة الاستهداء من الكتاب والسنة؛ لأن أكثرنا قد هدينا والحمد الله إلى
الإسلامية منتقلين إليها من (البروتستانتية) أي الطائفة الإنجيلية لا من الكاثوليك أي
الطائفة التقليدية فنميل طبعًا لاتباع الكتاب والسنة فقط، ولا نثق بقول غير معصوم
فيما ندين.
وقد تركنا دين آبائنا وقومنا لنتبع دين محمد نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام
لا لنتبع الحنفي أو الشافعي أو الحنبلي أو المالكي وإن كانوا ثقاة ناقلين.
ولنا جمعية منتظمة لها شعبتان في أمريكا وجنوب أفريقيا، ونحن راغبون أن
نسعى سعيًا حثيثًا في الدعوة للدين السامي الإسلامي المبين، والأقوام الذين ندعوهم
غالبهم متمدنون أي أفكارهم متنورة بالعلوم والمعارف وأكبر أملنا معقود بهداية فئتين
اثنتين: الأولى البروتستان والثانية الزنادقة.
أما أملنا في البروتستان، فلأنهم منقلبون حديثًا من الكاثوليكية انقلابًا ناشئًا عن
ترجيحهم الاقتصار على الإنجيل ومجموعة الكتب المقدسة متونًا فقط أي بإهمال
الشروح والتفسيرات والمزيادات التي لا يوجد لها أصل صريح في الإنجيل.
والبروتستان في أوربا وأمريكا يزيدون على مائة مليون من النفوس كلهم
مفطورون على التدين قليلو العناد في الاعتقاد مستعدون لقبول البحث والانقياد للحق
بشرط ظهوره ظهورًا عقليًّا، ولا سيما إذا كان الحق ملائمًا لأسباب هجرهم
الكاثوليكية، من نحو إنكارهم الرياسة الدينية والرهبانية والتوسل بالقديسين وطلب
الشفاعة منهم واحترام الصور والتماثيل والدعاء لأجل الأموات وبيع الغفران والقول
بأن للبطارقة قوة قدسية وقوة تشريعية، وأن للبابا صفة العصمة عن الخطأ في الدين
وأن للأساقفة ومن دونهم من القسيسين مراتب مقدسة إلى غير ذلك مما يُنْتِجُ في
النصرانية سلطةً دينية وتشديدات تعبدية لا يوجد لها أصل في الإنجيل.
وقد يشبه هؤلاء البروتستان في رأيهم فئة قليلة من اليهود تعرف باسم
القرائين وهم الآخذون بأصل التوراة والمزامير والنابذون للتلمود أي للتفسيرات
ومزيدات الأحبار والحاخاميين الأقدمين.
أما الفئة الثانية فهم الزنادقة المارقون من النصرانية كليًّا؛ لعدم ملائمتها للعقل
وهؤلاء في أوربا وأمريكا كذلك يزيدون على مائة مليون من النفوس غالبهم
مستعدون لقبول ديانة تكون معقولة حرة سمحة تريحهم من نصب الكفر في الحياة
الحاضرة فضلاً عن العذاب في الآخرة.
ومن غريب نتائج التدقيق أن أفراد هذه الفئة كلما بعدوا عن النصرانية نفورًا
من شركها وخرافاتها وتشديداتها يقربون طبعًا من التوحيد والإسلامية وحكمتها
وسمحاتها، فبناءً على هذا الحال وهذه الآمال ترى جمعية (ليفربول) أهمية عظيمة
لتحرير مسألة الاستهداء من الكتاب والسنة وتصوير حكمة وسماحة الدين الإسلامي
للعالم المتمدن، فأرجو حضرة الأستاذ الرئيس أن يسمح لي بتفهم مسألة الاستهداء
على أسلوب المحاورة والمساجلة مع بعض الإخوان الأفاضل في هذا المحفل العلمي
العظيم.
فأجابه (الأستاذ الرئيس) بقوله له: ساجِل مَن شئت وخاطبْ مَن أردت
فالإخوان كلهم علماء أفاضل حكماء.
فقال (السعيد الإنكليزي) مخاطبًا العالم النجدي: إنك يا مولاي قد صورت
في مقدمة خطابك في التوحيد مَنْ هو المسلم وألزمتَه العمل بالكتاب والسنة فأرجوك
أن تعرفني أولاً ما هو الكتاب وما هي السنة.
فقال (العالم النجدي) أما (الكتاب) فهو هذا القرآن الذي وصل إلينا بطريق
لا شبهة فيه؛ لاجتماع الكلمة واتفاق الأمة عليه وتناقُلها إياه جيلاً عن جيل حفظًا في
الصدور وضبطًا في السطور مع الحرص العظيم على كيفية أدائه لفظًا وعلى هيئة
إملائه كتابة ومع الاعتناء الكامل في تحقيق أسباب النزول ومكانه ووقته مع حفظ
اللغة العربية المضرية القرشية التي نزل بها بإتقان لا مزيد عليه. وبقاء القرآن
محفوظًا من التحريف والتغيير وموجات الريب إلى الآن هو أحد إعجازه حيث جاء
مصدقًا لقوله تعالى فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩) .
أما (السنة) فهي ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أو فَعَلَه أو أقرَّه ولم يكن
صدر منه ذلك على سبيل الاختصاص أو الحكاية أو العادة، وقد اعتنى الصحابة ولا
سيما التابعون وتابعوهم رضي الله عنهم بحفظ السنة حديثها وآثارها وسِيَرها غاية
الاعتناء وتناقلوها بالرواية والسند مُتحرين الوثوق منتهى مراتب التحري والتثبت،
وقد حازت بعض مدونات السنة وثوقًا تامًا وقبولاً عامًّا في الأمة فوصلت إلينا بكمال
الضبط خصوصًا منها الكتاب السنة.
قال (السعيد الإنكليزي) لا يشك أحد حتى العدو المعاند في أنه لم تبلغ ولن
تبلغ أمة من الأمم شأو المسلمين في اعتنائهم بحفظ القرآن الكريم وضبطهم التاريخ
النبوي أي السنة، وكذلك يقال في اعتنائهم باللغة العربية التي هي آلة فهم الخطاب.
وبالنظر إلى ذلك كان يجب أن نحرر الشريعة الإسلامية أحسن تحرير فلا
يوجد فيها ما وجد في غيرها بسبب عدم ضبط أصولها من اختلافات ومباينات مهمة
بين العلماء الأئمة فأرجوك أن تبين لي ما هو منشأ هذا التشتت الذي نراه في
الأحكام.
أجابه (العالم النجدي) أن الاختلافات الموجودة في الشريعة ليس كما يظن
شاملة للأصول بل أصول الدين كلها والبعض من الفروع متفق عليها؛ لأن لها في
القرآن أو السنة أحكامًا صريحة قطعية الثبوت قطعية الدلالة بإجماع الأمة الذي لا
يُجَوِّز العقلُ فيه أن يكون عن غير أصل من الشرع [٢] .
أما الخلافات فإنما هي فروع تلك الأصول في بعض الأحكام التي ليس لها في
القرآن أو السنة نصوص صريحة بل بعض علماء الصحابة رضي الله عنهم وفقهاء
التابعين، ومن جاء بعدهم من الأئمة المجتهدين أخذوا تلك الأحكام التي اختلفوا فيها إما
تلقيًا من بعض الصحابة، فكلٌّ قَلَّدَ مَن صادف [٣] . وإما استنبطوها اجتهادًا من
نصوص الكتاب أو السنة بالمدلول المحتمل أو بالمفهوم أو بالاقتضاء أو من قرائن
الحال أو قرائن القال أو بالتوفيق أو بالتخريج أو التفريع أو بالقياس أو باتحاد
العلة أو باتحاد النتيجة أو بالتأويل أو الاستحسان، وهذه الأحكام الخلافية كلها ترجع
إلى دلائل إما قطعية الثبوت ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت ظنية الدلالة. ولكل واحد
من المجتهدين أصول في التطبيق وقوانين في الاستنباط يخالف فيها الآخر، ومنشأ
معظمها الخلافات النحوية والبيانية.
ثم إن أكثر الخلافات هي في مسائل المعاملات وعلى كل حال جاحدها لا يكفر
باتفاق الأئمة بل المخالفون لا يفسق بعضهم بعض إذا كان التخالف عن اجتهاد لا
عن هوى نفس أو تقصير في التتبع الممكن للمقيم في دار الإسلام (مرحى) .
قال (السعيد الإنكليزي) : إني أشكرك على ما أجملت وأوضحت غير أنك لم
تذكر في جملة أسباب الاختلاف في اعتبار الناسخ والمنسوخ بين آيتين أو حديثين
أو آية وحديث وإني أظن أن ذلك من أعظم أسباب الاختلاف في الأحكام.
أجابه (العالم النجدي) : إن نواسخ الأحكام قليلة ومعلومة والخلاف فيها أقل؛
لأن النسخ في زمن التشريع لم يحصل إلا عن حكمة ظاهرة كالتدريج في منع
السُّكْرِ كالنهي عنه حالةَ الصلاة ثم تعين منعُه. وكتغيير المقتضي للتوارث بالإخاء
وهو القطيعة التي حصلت بين المهاجرين وذوي أرحامهم في بدء الأمر ثم لما
تلاحقوا بعد فتح مكة نُسخ ذلك وجُعل التوارث بالنسب. وكالدعوة في أول الإسلام
إلى التوحيد والدين بمجرد الموعظة بدون جدال ثم به بدون صدع ثم به بدون قتال
ثم به في أهل جزيرة العرب فقط ثم بتعميمه مع قبول الجزية والخراج من
غيرهم [٤] (مرحى)
قال (السعيد الإنكليزي) : إن ما وصفت من أصول الاجتهاد وقوانين
استنباط الأحكام قد أنتج خلاف ما يأمر الله به في قوله تعالى: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣) وخلاف ما تقضيه الحكمة فهل من وسيلة سهلة
لرفع هذا التفرق.
أجابه (العالم النجدي) إني لا أهتدي لذلك سبيلاً [٥] ولعل في الإخوان من يتصور وسيلة لهذا الأمر المهم.
فابتدر (العلامة المصري) مخاطبًا السعيد الإنكليزي وقال: إن رفع الخلاف
غير ممكن مطلقًا ولكن يمكن تخفيف تأثيراته: وذلك أنه لما كان معظم الاختلاف
كما قرره أخونا العالم النجدي في الفروع دون الأصول وفي السنن والمندوبات
والصغائر والمكروهات دون الشعائر والواجبات والكبائر والمنكرات كان أكثر الأمة
هم العامة الذين لا يقدرون أن يميزوا بين الواجب والسنة والمندوب وبين النفل
والمباح بل تنقسم الأحكام كلها في نظرهم إلى نوعين أصليين فقط: مطلوب
ومحظور، وبتعبير آخر: إلى حلال وحرام، وكانت أحكام الشريعة كثيرة جدًّا،
فالعامة يجدون أنفسهم مكلفين بما لا يطيقون الإحاطة بمعرفته فضلاً عن القيام به
ويرون أن لا مناص لهم من التهاون في أكثره أو بعضه فيقوم أحدهم بالبعض فيأتي
بالنفل ويتهاون بالواجب ويتقي المكروه ويقدم على الحرام وذلك كما قلنا لاستكثاره
الأحكام وجهله بمراميها في التقديم والتأخير [٦] .
بناءً على ذلك أرى لو أن فقهاء الأمة كما فرقوا مراتب الأحكام على المسائل
يفرقون المسائل أيضًا على المراتب في متون مخصوصة. فيعقدون لكل مذهب من
المذاهب كتابًا في العبادات ينقسم إلى أبواب وفصول تذكر في كل منها الفرائض
والواجبات فقط وتنطوي ضمنًا الشرائط والأركان بحيث يقال: إن هذه الأحكام على
هذه المذاهب هي أقل ما تجوز به العبادة.
ويعقدون كتابًا آخر ينقسم إلى عين تلك الأبواب والفصول تذكر فيها السنن
بحيث يقال: إن هذه الأحكام ينبغي رعايتها في أكثر الأوقات. ثم كتابًا ثالثًا مثل
الأولين تذكر فيه السنن الزوائد بحث يقال: إن هذه الأحكام رعايتها أولى من تركها
وعلي هذا النسق يوضع كتاب للمنهيات يقسم إلى أبواب وفصول تعد فيها المكفرات
والكبائر وكذا الصغائر والمكروهات، ومثل ذلك تقسم كتب المعاملات على طبقات
من الأحكام الاجتماعية أو الاجتهادية أو الاستحسانية.
فبمثل هذا الترتيب يسهل على كل من العامة أن يعرف ما هو مكلف به في
دينه؛ فيعمل عل حسب مراتبه وإمكانه، وبهذه الصورة تظهر سماحة الدين الحنيف
ويصير المسلم مطمئن القلب مثله كمثل تاجر له دفاتر وقيود وحسابات وموازنات
منتظمة فيعيش مطمئن الفكر، وكم بين هذا التاجر وبين تاجر آخر حساباته في
أوراق منتثرة ومعاملاته متزاحمة في فكره لا يعرف ما له وما عليه فيعيش عمره
مرتبك البال مضطرب الحال. (مرحى)
((يتبع بمقال تالٍ))