للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الهدايا والتقاريظ
(خير الكلام في القراءة خلف الإمام، وقرة العينين برفع اليدين)
كتابان مختصران للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري
صاحب الجامع الصحيح، جمع في الأول ما رواه من الأحاديث النبوية الدالة على
وجوب القراءة خلف الإمام في الصلاة، وفي الثاني ما رواه في إثبات رفع اليدين عند
الركوع وعند القيام، ومن التشهد الأول، والأحاديث في المسألتين كثيرة، وقد
تذكرتُ الآن أنني سمعت أستاذنا الفقيه المحدث الشيخ محمود نشابه الطرابلسي
الأزهري (رحمه الله تعالى) قال: وهو يقرأ لنا شرح البخاري في أوائل طلبنا
للعلم أن البخاري روى رفع اليدين عن خمسين صحابيًّا وله فيه كتاب، ومن ذلك
اليوم تمنيت أن أرى هذا الكتاب الذي أثبت البخاري المسألة فيه بالتواتر حتى رأيته
مطبوعًا في هذه الأيام، وكنت أعجب لترك الناس هذه السنة حتى الذين أثبتها
أئمتهم كالشافعية.
الحنفية يتركونها لأن شيوخهم قالوا أنها مكروهة لأنها لم تثبت عند إمامهم
وإن كان كل من شم رائحة علم السنة منهم موقن بأنها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لو وقع مثله لإمامهم لما تركها مرة واحدة، وأما الشافعية فإنهم قد
يتركونها مسايرة للحنفية. صلى كاتب هذه السطور إمامًا بأستاذه الشيخ حسين
أفندي الجسر فرفعت يدي عند الركوع والقيام منه ومن التشهد الأول كما هو دأبي
فلما فرغنا من الصلاة قال لي أحد الشيوخ من الشافعية وكان حاضرًا الصلاة:هلا
تركت رفع اليدين أدبًا مع أستاذك؟ فقلت: ما علمني أستاذي أن أترك السنة أدبًا
معه، ولا أرى أن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينافي الأدب معه فقال
ذلك الشيخ: إن إمامك الشافعي ترك القنوت في الصبح أدبًا مع الإمام أبي حنيفة
عندما زار قبره فقلت معاذ الله أن يترك الإمام السنة لأجل أحد من الناس وقد أوَّلَ
العلماء هذه الحكاية على تقدير ثبوتها (وما هي بثابتة) بأن الإمام ترك القنوت
لشبهة عرضت له في بلده غَيَّرَتْ اجتهاده وقتئذ، فصدقني الأستاذ وقال: نعم هكذا
أولوها.
فليعتبر المسلمون بهؤلاء الشيوخ الذين يأمروننا بترك السنة مداهنة لأهل الجاه
من الأحياء وتقليدًا لأهل الشهرة من الأموات، ومثل هؤلاء الشيوخ الذين يرجعون
الدين إلى الأفكار الفاسدة يتجرأون على انتقاد أئمة العلماء والمصلحين من
المعاصرين ويكثرون من عيبهم ويتملقون لهم أشد التملق في حضرتهم
والعامة تغتر بهم إذا درسوا وخطبوا فيزيدونها غرورًا.
الكتابان اللذان نحن بصدد تقريظهما طُبِعَا معًا في المطبعة الخيرية على نفقة
صاحبها الهمام السيد عمر الخشاب ويباعان في مكتبته، فنحث محبي السنة على
مطالعتهما والعمل بهما {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: ٧) .
* * *
(الروضة الأنيقة في بيان الشريعة والحقيقة)
كتاب يدل على مسماه من تصنيف العالم الصوفي الشيخ عبد العزيز
الديريني المتوفى سنة ٦٧٩ رحمه الله تعالى، وفي الكتاب مسائل نافعة يصح أن
تجعل حُجة على الذين يدعون التصوف وينتهكون حرمات الدين، ويدعون أنهم
أولياء الله وأحباؤه، من ذلك أنه عقد بابًا للإنكار على مشايخ الطريق الذين يجتمعون
بالنساء، ويزعمون أنهم يرشدونهن واستشهد لذلك بعدم مصافحة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم للنساء عند مبايعتهن على الإيمان وغير ذلك وقال: إنه لا يصلح لتعليم
النساء إلا الراسخون في العلم والدين بشرط عدم الخلوة وعدم إظهار الزينة على أن
المرأة إنما تتعلم من الأجنبي ما يجب عليها إذا لم يكن لها محرم يعلمها، وقد ختم المؤلف هذا الباب بفصل قال فيه:
وقد زاد قوم فزعموا أن اجتماعهم بالنساء والشبان وتعاطي هذه الأمور مما
تحصل به البركة فإن قرب المرأة أو الشاب من الرجل سبب لحياة القلب فإن النور
يسري من القلب إلى القلب وأشباه هذه الزخارف الباطلة. فهؤلاء قوم تشبهوا
بالشياطين فإن الشيطان يسول للجاهل أمورًا محرمة ويزينها بصور باطلة، فهذه
حيلة فسق وحيلة مكر وخديعة كذب؛ فليت هؤلاء حيث وقعوا في هذه القبائح لم
يضيفوا إليها ما هو أقبح منها، فإن العاصي المعترف بمعصيته أخف إثمًا
وأقل جُرْمًا ويجب على من له أمر أن يردع هؤلاء بالتعزيز الشافي والزجر الكافي،
ومن لم يقدر على ذلك فلينههم نهيًا كافيًا فإن لم يقبلوا وَجَبَ الإنكار عليهم بالقلب
كما قال الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتْعُوا} (الحجر: ٣) الآية اهـ.
وقد وضع ناشر الكتاب في آخره قواعد جميلة منها هذه القاعدة الثابتة، قال:
إذا حُقِّقَ أصل العلم وعُرفت مواده وجرت فروعه ولاحت أصوله كان الفهم فيه
مبذولاً بين أهله، فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر وإن كان له فضيلة السبق،
فالعلم حاكم ونظر المتأخر أتم؛ لأنه زائد على المتقدم، والفتح من الله مأمول لكل
أحد، ولله در ابن مالك رحمه الله حيث يقول: إذا كانت هذه العلوم مِنَحًا إلهية
ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير
من المتقدمين، نعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف،
انتهى وهو عجيب) والكتاب مطبوع طبعًا حسنًا على ورق جيد ومكتوب عليها
(إيليا ١٣٢٠) فليته بين أهل الطريق فينتفعوا باعتداله.
* * *
(الحال والمآل)
قصة وضعها أحمد حافظ أفندي عوض كما ذكرنا في تقريظ (قصص
مسامرات الشعب) شرح فيها كيفية عشق الفتيان والفتيات أو التلامذة والتلميذات
في مصر، وكيف يغوي بعض البنات المتعلمات بعضًا، وقد علمنا أنه لم يذكر إلا
بعض الواقع بالاختصار، القصة أنفع القصص التي ألفت لمكتبة الشعب أو أنفع ما
ألف الشبان المصريون من هذه القصص، وإن كانت في عبارتها دون ما كتب
حافظ من قبل؛ لأنه كان في وجل من طروق هذا الباب الذي يظهر من ورائه سوء
التربية في قومه وفي حذر وانشقاق من عذل العاذلين، ولوم اللائمين، فلم
ينطلق قلمه بحرية تامة وله الفضل إن طرق هذا الباب من أبواب الجد.
موضوع القصة بنت اسمها (أسماء) نشأت - ولا أقول تربت - في حجر
الدلال ثم وضعت في المدرسة فصاحبت فيها بنت أحد الأغنياء من المصريين
المتفرنجين حتى صارت تركب معها أحيانًا إلى بيت أبيها فترى فيه الأثاث والرياش
وكيفية المعيشة على الطريقة الإفرنجية فمقتت عادات بيت أبيها الشرقية
وفي هذا المقام إلمام بكيفية الانتقال من العادات الشرقية إلى العادات الغربية في
شئون المعيشة.
امتدت المعاشرة بين البنتين حتى ركبتا يومًا للنزهة فلقيهما في الطريق أحد
الشبان المتعلمين الذين قال حافظ في وصفهم (كان مبلغ ما تعلموه من المدارس وما
تلقنوه من دروس الحياة مقصورًا على العناية بملابسهم وتنسيق هندامهم ووضع
طرابيشهم المائلة إلى جهة الأذن على شعر لامع مدهون بكذا وكذا.. وياقة مرتفعة
ورباط رقبة فيه دبوس من الماس ولباس - أي سراويل - ضيق وخواتم من الذهب
ومنظار بسلسلة ذهبية وحذاء أصفر رفيع براق) وكان هذا الشاب عشيق الفتاة
المصرية فكاشفت أسماء بعشقهما وسألتها عن العشق ولما عرفت أنها لا تعرفه
نبذتها بلقب المسكنة، ثم أقبل الشاب وصافحهما مُسَلِّمًا ولما اضطربت من الخجل
لأنها لم تتعود ذلك الشاب فقالت لها رفيقتها: (ما لي أراك قد خجلت وهل في
الحديث والتسليم على الشبان عيب؟ إنما العيب أن لا ينظر إلينا أحد ولا ينظر إلى
محاسننا إنسان) ثم رَغَّبّتْهَا في قراءة القصص الغرامية وأعطتها واحدة منها ففتنت
أسماء بأخبار العشق والغرام، وشغلت عن الدرس والمنام، فتغير حالها حتى
تنبهت والدتها لذلك التغير وسألتها عن سببه فكذبت في الجواب، قال المؤلف
(وليس الصدق صفة محترمة عندنا معاشر المصريين بل يكاد الإنسان أن لا
يعرف له مزية، بل إن شئت فقل إننا نتعلم الكذب في بيوتنا من آبائنا وأمهاتنا) ثم
إن أسماء تعلمت العشق فعشقت شابًّا مهذبًا.
ثم إن المصنف ذكر أن البنتين حضرتا احتفال عرس صديقة للثانية ووصف
فيه ما هو جار في مصر الآن من مغازلة النساء المتزينات للرجال من النوافذ
والكوى ومن شرب النساء الخمر جهرًا، وذكر أن أسماء تعلمت في تلك الليلة من
البنات الشرب على أنه من (التمدن والمودة) فلما ثملت مع صديقتها قامتا إلى
النوافذ كغيرهما فأبصرت كل منهما مع من تحب، وكانتا على موعد منهما فأشارتا
إليهما بالانتظار فلما التقى الأربعة حصل التعارف بين الجميع - كذلك العادة بين
الأحداث من العاشقين والعاشقات في مصر كما أخبره المجربون - ثم ركبت أسماء
مع عشيقها في مركبته كما ركب عشيق نجية معها في مركبتها وانطلقوا إلى الجزيرة
ولكن ساء صاحب أسماء سكرها وتهتكها الذي تعلمته من نجية، وعَنَّفَها على ذلك
فوعدته بأن تكون كما يحب وهيهات ذلك فإن السائر في طريق الرذيلة كمن يتدهور
بين حالين لا يقف حتى يبلغ القرار كما أشار المصنف، ثم إن عاشق أسماء يأس من
صلاح حالها فتركها ثم قضى أهلها عليها بالتزوج بأحد أولاد العمد الأغنياء فرضيت
كارهة وعاملت زوجها أقبح المعاملة لاحتقارها إياه لأنه لا يعرف الفرنسوية وفنون
التخنث والتهتك وكان أولاً يحبها ويتحمل إهانتها حتى عيل صبره فأبغضها وعلق
بالراقصات وعرف البغايا وشرب الخمر واعتزلها بالمرة فشكت يومًا إلى صديقتها
القديمة فأشارت عليها بأن تعامله بالمثل فتنتقم منه بالبغاء ففعلت فأصيبت بداء
الزهري وانتقل منها المرض إلى ولدها بالعدوى، عاث فيها المرض فتقرح بدنها
وانقلبت سحنتها وتحول ذلك الجمال إلى قبح تقشعر منه الجلود وانتهى بالجنون ثم
بالموت.
هذا هو الوباء الساري في حياة مصر الأدبية وما وصف كاتب القصة إلا
بعض ما علم فهل يوجد في مصر قوم يغارون على الملة والأمة فيسعون في تربية
الناشئين والناشئات تربية دينية تصادم هذه الشرور، وتقلل من هذا الفجور؟ الآباء
مهملون والأمهات جاهلات فماذا يفعل البنون والبنات؟
إذا كان رب البيت بالطبل ضاربًا ... فلا تلم الأولاد فيه على الرقص
الرجال هم الذين يغيرون أحوال الأمم الاجتماعية وليس عندنا رجال، نعم إن
خير رجال مصر هم الذين أسسوا الجمعية الخيرية الإسلامية ولكن عملهم للأمة لا
يزال ناقصًا، فإذا استطاعوا أن يوجدوا مدرسة كلية في مكان بعيد من المدن بل
عن الناس يربون فيها طائفة من الناشئين حتى يكونوا رجالاً عاملين فذلك باب
النجاح دون سواه وإن لم يستطيعوا فمستقبل مصر مظلم جدًا والله أعلم بمصير
الأمور.