للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

الشذرة الثامنة من جريدة أراسم [*]
(تجلي العلم في العمل)
زرت بالأمس أنا وأميل ولُولا مسبك قصدير في بانزانس واقع على
ضفاف خليج الجبل ولست أقضي العجب من منعطف هذا الخليج الذي كأنه في
عظمه وجماله صدر تيتيس [١] أحاطت به السكة الحديدية فجعلت له من شريطها
قلادة. يوجد المسبك تجاه الخليج ويتألف بناؤه من أماكن قديمة تقوم على أعمدة من
الخشب تغطيها سُقُفٌ من البلاط الأسود لا يتردد الناظر إليها في أن يحسبها سقائف
لانخفاضها وانفراجها للرياح من كل ناحية.
رأينا في إحدى هذه السقائف أكوامًا من تراب أسمر يسمى بمعدن الحجر
جمعت فيه ووزعت على غير نظام وتنحصر أعمال المسبك في إحالة هذا التراب
القسطني اللون (كذا) إلى معدن يطلبه التجار كثيرًا.
كانت زيارتنا للمسبك في نحو الساعة التاسعة من المساء أي بعد غروب
الشمس بزمن طويل في ليلة ظلماء كان يتخلل ظلامها بصيص نار الأفران التي
بنيت بالآجر وجعل لكل منها باب من حديد في وسطه ثقب مستدير كأنه حدقة من
نار.
يصهر القصدير وبعد مكابدته مِحَنًا مختلفة يتجرد مما كان ممتزجًا به من
المواد المكدرة لصفائه وهي الحصا والكبريت والنحاس فإذا تم ذلك جاء وقت صبه
وهي الساعة المشهورة. يخرج هذا المعدن الثقيل الصافي من ثقب في أسفل الفرن
وقد بلغ من الحرارة درجة البياض ويسقط في خابية من الحديد المصبوب فيذكر
الناظر ساعة باستدارة سطحه ولمعانه القمر في إحدى ليالي الصيف أبيض
ساطعًا.
إذا صُبَّ القصدير في الخالية آخر مرة (ولا بد من إذابته أكثر من مرة)
ألقيت عليه أغصان من الشجر الأخضر خصوصًا أغصان التفاح فتفوره وتهيجه
وويل حينئذ للعمال أو الناظرين الذين لا يبادرون بالابتعاد عنه ليتقوا عوادي هذا
المعدن الغضبان. ذلك أن فقاقيع الهواء التي تنفصل منه ترتفع معها قطيرات
محرقة تسمع لها نشنشة تنبجس من كل ناحية انبجاس الشرر من باقة نار
الزينة.
لا جرم أن أميل ولُولا لم يدركا السر الكيماوي في جميع هذه الاستحالات التي
تعاورت معدن الحجر قبل صيرورته قصديرًا بل إنهما ربما لم يحصل في ذهنهما
من مجموع ما حصل من الأعمال إلا معنى في غاية الإبهام ولكن قد شاقهما من هذا
المنظر جدته فإنهما رجواني أن آخذهما إلى المسبك مرة أخرى.
أرى أن القائمين على تربية الناشئين قد أفرطوا في التفريق بين العلم وبين ما
يربطه بالصناعة من الروابط ومع كوني لا أنكر أن ما في المدارس من المعامل
الكيماوية والمجموعات التعليمية والدروس العامة هو من المساعدات العظمى على
التعليم، وأقصد قصدًا أكيدًا أن أستعين به على تعليم ولدي في مستقبله تراني أفضل
الآن أن أختلف به إلى معهد آخر تتمثل فيه أمامه الأعمال وتتراءى له الوقائع.
زرنا معًا متحفًا من متاحف الدفائن الأثرية في بانزانس، وهي ليست كثيرة في
بلاد كرنواي والكثير فيها إنما هو المعادن المفيدة كالرصاص والقصدير والنحاس
وغيرها من المعادن الحجرية الغريبة فلم يلفت ذهن (أميل) ما في خزائنه من قطع
هذه الدفائن المرتبة إلا قليلاً، وأما دولوريس فأخص ما استرعى نظرها ما يوجد فيها
من فلذ البلور وبعض الحجارة التي لو تناولتها يد الصناعة لصارت من مواد الزينة
الجميلة.
ثم أخذنا طريقنا بعد ذلك بأيام إلى متحف كبير يمتد مكشوفًا على ضفاف
المحيط بين جبال من الصوان بَعَّجَتْهَا يدُ الإنسان فكان مَرْآه في نظر الفلاحين أحسن
من جميع متاحف الدنيا.
ففرق عند الطفل بين أن يرى من وراء الزجاج معادن حجرية رتبت في
رواق ترتيبًا خاليًا من دواعي التأثر وبين أن تتمثل أمامه الصخور في وضعها
الطبيعي ويشاهد الأرضين وقد شاه وجهها وانقلبت ظهرًا لبطن وكتل البلاط الأسود
والرخام السماقي في جسامتها المريعة وقد تناوبها المصدع وبارود المدفع فأوسعاها
صدعًا وأشبعاها كسرًا، وقد هاج شوق (أميل) منظر أعمال النحت هيجًا شديدًا
فطفق يخاطب النحاتين، ولا بدع فالإنسان في سِنِّهِ لا يستنكف أن يخاطب كل من
يراه؛ لأن قلبه حينئذ لا يكون قد أفسده الكِبْر، وقد استفاد من مجاورته معهم فلم
تذهب عليه عبئًا.
إن فتى إيقوسيًّا اسمه هوج ميلار صار من أشهر العلماء في بريطانيا العظمى
ببركة تكسيره الأحجار ونحتها من منحت حجر رملي قديم واستولى استيلاء المالك
على إقليم ذلك المنحت الحافل بالدفائن الأثرية وأصبح اسمه كأنه علم له.
ربما احتذى (أميل) مثال هذا العالم إذا زرنا معا إقليم ديقُو نشَايرْ فاعتضد
المطرقة وحمل المتحاف فإني أراه مدفوعًا على ذلك بسائق الطبع؛ لأنه يشتهي كغيره
من أترابه أن يهجم على ما يلاقيه من العقبات فيدمره ويزيله؛ ولأن الدفائن الأثرية
التي يستخلصها الإنسان بنفسه من الصخرة أعلى في نظره كثيرًا مما يجده منها
مرتبًا في المتاحف ذلك؛ لأن آثار الأجسام العضوية تكون غالبًا من الاختباء في
باطن الحجر بحيث إنه لا بد قبل استخلاصها من تمييزها منه بل ربما صح لي أن
أقول: إنه لا بد من تخمين وجودها بما يبدو من تحت غطائها الجافي من سمة تدل
عليها أو طرف من أطرافها ثم إن الصخرة تارة تكون صلبة فتقاوم منحات الناحت
وتحتمله وطورًا تكون هشة فتتلاشى وتتفتت وفي كلتا الحالتين يَهدم الخرْق والخطأ
بنقرة واحدة عملَ الدهر في قرون كاملة وما أكثر ما يتعلم الطفل في هذا الجهاد.
نعم إن (أميل) سيخدع فيه غير مرة وسيتفق له أن يخسر لقطاته أو يعيها
على حين اعتقاده أنه حصل عليها سالمة من كل نقص ولكن لا شيء في هذا فإن
مثله من اليافعين إذا غلبته العقبات المادية وجد عليها وبعثه ذلك على الانتقام لنفسه منها فلا يلبث أن يظفر بها.
كأن مشاهدة المناحت واسطة ينتقل بها الذهن من علم طبقات الأرض إلى فن
العمارة فسيذكر (أميل) إذا عرض له في طريقه ما في المدن من الأبنية الفخيمة
أن حجارتها تحنت من قاع البحار القديمة، وإذا رأى المعابد والقصور فإن نوع
حجارتها سيحضر في ذهنه الصخرة التي نحتت منها والمخلوقات العضوية القديمة
التي صارت هذه الصخرة رَمْسًا لها.
العلم الذي يحصله الإنسان بعرق جبينه ربما لا يكون واسعًا ولكنه يكون متينًا
راسخًا خذ لذلك مثلاً: الزهرة التي تُجْنَى من غَوْر بعد اقتحام ما كان دونها من
العقبات يكون لها في ذاكرة جانيها آثار أقوى مما يكون لزهرة رآها بلا عناء مجهزة
محفوظة في إحدى صحف المجموعات النباتية. وما يجمعه المرأ بنفسه من المحار
والصدف على شاطئ البحر يدرب بصره على إدراك ما يميزه من صفاته الظاهرة
أكثر مما يدربه على ذلك ما يوجد منه مرتبًا ومَعَنْوَنًا في رواق مُعَدّ له فالبحث
يُكسب البصر واليد دربة ومرانة.
أنا لا أشك في أن التجارب الكيماوية والطبيعية مفيدة لمن منحوا الميل إلى
التعلم ولكني أرى أن عامة الأطفال قد يبدون من الارتياح إلى العلم معمولاً به في
الصناعة ومن الانفعال بما يرونه من آياته فيها أكثر مما يبدونه لمثل هذه التجارب
وقلما يوجد معمل من المعامل الكبيرة إلا وهو أيضًا مدرسة كبرى للعقل فما أبهر ما
يُرى فيه من قوى للطبيعة مقيدة ومطلقة و (كلٍّ) مؤلف من عجلات وأسنان تسحق
الحجر سحقًا وتمضغ الحديد ومضغًا وتقطع الخشَبَ قطعًا وآلاف مؤلفة من إنباض
البخار الذي يحرك جسم هذا (الكل) وإنسان استبدل بأعضائه هذه الأعضاء الصلبية
في كده وكدحه فحلت محله وجرت على مقتضى إرادته وقام هو عليها يلاحظ
مجاهداتها العجيبة بعين قريرة ساكنة.
نعم إن هذا المشهد لا يأخذ أول الأمر إلا ببصر اليافع ولكنه متى كان فيه
شيء من الشوق إلى العلم لا يلبث أن يسأل عن سبب هذه الحركات الاستقلالية وعَمَّا
للمواد بعضها على بعض من التأثير المتناوب وبالجملة عن سر الطرق التي تحيل
المادة الفطرية إلى محاصيل صناعية.
ليس أحقر الأشياء بأقلها دائمًا في صنعة إثارة للشوق ولا ملاحظته بأقل
جدوى في التعليم فعلبة الكبريت والدبوس والشمعة (كما بَيَّنَه فاراداي [٢] حق البيان)
لها بعلمَيْ الطبيعة والكيميا تعلق يدركه كل واحد من الناس ويعرفه لأول نظرة.
أنا أعلم أن تحصيل عِلْمِ عِدَّةٍ من الصناعات والاختصاص به يقتضي أن
يعيش الإنسان أضعاف عمره ولذلك لا أرجو مطلقًا أن (أميل) إذا رأى غيره
يشتغل بحرفة يحيط خيرًا بأسرار العمل فيها.
على أن الشبان أقل حاجة إلى الوقت من غيره فلو أن القائمين على التعليم
أحسنوا في توجيهه إلى غايته ما شككت أبدًا في أن الطفل الذي بين الثانية عشرة
والثالثة عشرة من عمره يتعلم في المعامل شيئًا كثيرًا.
وجملة القول أن لدينا في جميع المدن الكبرى بل وفي القرى كثيرًا من معاهد
العمل التي لو اختلف الطفل إليها لأدرك بالعيان والحس بعض قوانين المادة وتعلم
حب العامل وتعظيمه، وكانت أقل فائدة له من ذلك: ملاحظة طرق الصناعة أو
الزراعة إن لم يباشر شيئًا من أعمالها بيديه وتلك مزية أخرى له فليت شعري هل
يصح في نظر العقل أن نغفل هذه الينابيع المتدفقة للعرفان وتبخس حقوقها من
العناية وتكون دراسة الألفاظ هى موضع الاهتمام والرعاية. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))