للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد عبده


الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال الثالث لذلك الإمام الحكيم والأستاذ العليم

نتائج هذه الأصول وآثارها في المسلمين
إلام أفضت طبيعة الإسلام بالمسلمين؟ وماذا كان أثرها في أسلافهم الأولين؟
فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر واستولى بجيشه على الإسكندرية بعد
لحاق النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - بالرفيق الأعلى بست سنوات، في
رواية وتسع سنوات، في رواية أخرى والإسلام في طلوع فجره، وتَفَتُّح نوره، فكان
من بقايا ما تركت الأزمان الأولى: رجلُ مسيحيُ من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي
كان في بدء أمره ملاحًا يعبرُ الناسُ بسفينته، وكان يميل إلى العلم بطبيعته فإذا ركب
معه بعض أهل العلم أصغى إلى مذاكرتهم.
اشتد به الشوق فترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن أربعين سنة فبلغ فيه ما
لم يبلغه الناشئون فيه من طفوليتهم وقد أحسن من العلم فنونًا كثيرةً حتى عُدَّ من فلاسفة
وقته وأطبائه ومناطقته.
يقول كثير من مؤرخي الغربييين ومؤرخي المسلمين: إن عمرو بن العاص
سمع به فاستدناه منه وأكرمه لعلمه ووقعت بينهما محبة ظهر أمرها واشتهر حتى قال
أحد فلاسفة الغربيين: (إن المحبة التي نشأت بين عمرو بن العاص فاتح مصر
ويوحنا النحوي ترينا مبلغ ما يسمو إليه العقل العربي من الأفكار الحرّة والرأي
العالي. بمجرد ما أعتق من الوثنية الجاهلية ودخل في التوحيد المحمدي أصبح على
غاية من الاستعداد للجوَلان في ميادين العلوم الفلسفية والأدبية من كل نوع) .
خالط المسلمون أهل فارس وسوريا وسواد العراق وأدخلوهم في أعمالهم ولم
يمنعهم الدين عن استعمالهم حتى كانت دفاترهم بالرومية في سوريا ولم تغيّر
بالعربية إلا بعد عشرات من السنين فاحتكت الأفكار بالأفكار، وأفضت سماحة الدين
إلى أن أخذ المسلمون في دراسة العلوم والفنون والصنائع.
* * *
(اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية ثم العقلية)
وبعد عشرين سنة من وفاته عليه الصلاة والسلام أخذ الخليفة علي بن أبي
طالب - كرم الله وجهه - يحضُّ على تعليم الآداب العربية ويطلب وضع القواعد لها
لما رأى من حاجة الناس إلى ذلك، وأخذ المسلمون يتحسّسُون نور العلم في ظلام تلك
الفتن استرسالاً مع ما يدعوهم إليه دينهم وتنبّههم لطلبه شريعتهم. وإن كانت
الحروب الداخلية التي اشتعلت نارها في أطراف بلادهم للنزاع في أمر الخلافة قد
شغلتهم عن كل شيء من مصالحهم فإنها لم تشغلهم عن تلمس العلوم والتناول منها
بالتدريج على سنة الفطرة. فالبراعة في الآداب من علم بوقائع العرب وتاريخهم
وقول الشعر وإنشاء البليغ من النثر قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغًا لم تبلغه أمة قط
في مثل مدتها، وكان الخلفاء الأمويون يعلون منزلتها ويرفعون مكانات الشعراء
والخطباء والعلماء بالسير، ثم ظهرت آثار العلوم العقلية في آخر دولتهم وترجمت
جملة من الكتب العقلية والصناعية قبل نهاية القرن الأول.
نقل الخلفاء الأمويون دار الخلافة من المدينة إلى الشام، ولم يسيروا في الزهد
سيرة الخلفاء الراشدين فقد جاء رسول من الفرس إلى عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - فلما سأل عنه دُلَّ عليه فذهب إليه فإذا هو نائم على الأرض تحت نخل
البقيع بين الفقراء وجاءت رسل الملوك إلى معاوية - رحمه الله - فإذا هو في قصر
مشيد محلَّى البنيان بأجمل ما يكون من الصنعة العربية، مزين بالجنات والرياض
وينابيع الماء، مفروش بأحسن الفرش يرى الناظر فيه أفخر الأثاث والرياش. ولم
يكن معاوية في ذلك قد خالف الدين أو حاد عن طريقه وإنما تناول مباحًا وتمتع
برخصة آتاه الله إياها ولا يخفى ما في ذلك من ترويج فنون الإبداع في الصنعة على
اختلاف ضروبها.
* * *
(اشتغالهم بالعلوم الكونية في أوائل القرن الثاني)
انقضت دولة بني أمية والناس في ظلمات من الفتن كما قلنا ودالت الدولة لبني
العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن
الثاني للهجرة (سنة ١٣٢) ، ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد فصارت بعد
ذلك عاصمة العلم والمدنية أيضًا. وأخذ المنصور ينشئ المدارس للطب والشريعة
وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية، وأكْمَلَ حفيدُه الرشيدُ ما شرع
فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها. وجاء المأمون
فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها، ونالت به أكبر ثروتها، ويقال: إنه حمل
إلى بغداد من الكتب المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير، وكان من شروط صلحه مع
ميشيل الثالث أن يعطيَهُ مكتبةً من مكاتب الأستانة. فوجد مما فيها من النفائس كتاب
بطليموس في الرياضة السماوية فأمر المأمون في الحال بترجمته وسمَوه بالمجسطي
ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني
العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
(إنشاؤهم دور الكتب العامة والخاصة)
وقد أخذت دول الإسلام تعتني بديار الكتب عناية لم يسبقْها مثلها من دول
سواها حتى كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة ألف
مجلد منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير. وكان من نظامها أن تعار بعض
الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة. وكان فيها كُرَتَان سماويتان إحداهما من الفضة
يقال: إن صانعها بطليموس نفسه وإنه أنفق فيها ثلاثة آلاف دينار. والثانية من
البرنز، ومكتبة الخلفاء في أسبانيا بلغ ما فيها ست مائة ألف مجلد. وكان فهرستها
أربعة وأربعين مجلدًا. وقد حققوا أنه كان في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عمومية.
وكان في هذه المكاتب مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة.
وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون ديارهم معاهد دراسة لما
تحتوي عليه. يقال إن سلطان بخارى دعا طبيبًا أندلسيًّا ليزوره فأجابه أن ذلك لا
يمكنه؛ لأن كتبه تحتاج إلى أربعمائة جَمَل لتحملها وهو لا يستغني عنها كلها.
وكان حنين بن إسحق النسطوري في بغداد ممن جعل في داره مكتبة عامة يَفِدُ إليها
طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بمذاكرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه.
* * *
(إنشاؤهم المدارس للعلوم وكيفية التدريس)
غُطي بسيط المملكة الإسلامية على سعتها بالمدارس. نقول (على سعتها)
لأنها زادت في السعة على المملكة الرومانية بكثير. فكنت تجد المدارس في كل
الأقطار: في المغول، في التتار من جهة المشرق، في مراكش، في فاس، في
أسبانيا من جهة المغرب.
كانت طريقة الأساتذة في التدريس أن كل مدرس يُعِدُّ درسه ويكتب في
الموضوع الذي يلقي الدرس فيه ما يريد أن يكتب ثم يلقيه على التلامذة وهم يكتبون
عنه، ثم تكون هذه الدروس كتبًا وأماليّ تنشر بين الناس في كل علم. وهنا نبادر
إلى القول بأن المؤرخين قد أجمعوا على أن جميع المقالات والكتب كانت تنشر
ويتداولها الناس بدون أدنى مراقبة ولا حجر ولا نقص شيء مما كتب صاحب
الكتاب غير أن مؤرخًا واحدًا رأيته ذكر أنه قد وُضِعَ قانونٌ في بعض الممالك
الإسلامية لنشر كتب العقائد مقتضاه أن لا ينشر منها شيء إلا بإذنٍ، على أني لا
أعلم شيئًا من ذلك وقع في الممالك الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا.
نرجع إلى الكلام في المدارس الإسلامية، يقول جبون في كلامه على حماية
المسلمين للعلم في الشرق وفي الغرب: (إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون
الخلفاء، في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت
العلم ومساعدة الفقراء على طلبه، وكان عن ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في
تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة. أنفق
وزير واحد لأحد السلاطين (هو نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في
بغداد، وجعل لها من الريع يصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة.
وكان الذين يُغْذوْن بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في
المملكة وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص
للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه. والمعلمون كانوا يُنقدون رواتب
وافرة) . اهـ
انقسمت الممالك الإسلامية في زمن من الأزمان إلى ثلاثة أقسام وتنازع
الخلافة ثلاث شيع. كان العباسيون في آسيا (الشرق) والأمويون في الأندلس من
أوروبا (الغرب) والفاطميون في مصر من أفريقيا (الوسط) ولم يكن تنافس هذه
الدول الثلاث قاصرًا على الملك والسلطان ولكن كان التنافس في العلم والأدب.
وكان مرصد سمرقند قائمًا في ناحية المشرق يشير إلى ما كان عليه المشرقيون من
العناية برياضة الأفلاك، ومرصد جيرالد في الأندلس يجيبه بأن أهل المغرب ليسوا
بأحط منهم في الإدراك.
جميع المدارس في البلاد الإسلامية أخذت نظام الامتحان في المدارس الطبية
عن مدرسة الطب في القاهرة وكان من أشد النظامات وأدقها. ولم يكن لطبيب أن
يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان على
شدته. وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوربا على هذا النظام المحكم هي التي
أنشأها العرب في ساليرن من بلاد إيطاليا، وأول مرصد فلكي أقيم في أوروبا هو
الذي أقامه العرب في أشبيلية من بلاد أسبانيا.
وُلع المسلمون بالعلوم الكونية على اختلافها، والفنون الأدبية بجميع أنواعها،
حتى القصص والأساطير الخيالية، في الأحوال الاجتماعية، وابتدأوا بأخذ العلم
عن اليونانية والسريانية، وأخذوا ينقلون كتب الأولين من تلك الألسن إلى اللغة
العربية بالترجمة الصحيحة، وكان مترجموهم في أول الأمر مسيحيين وصابئين
وغيرهم، ثم تعلم كثير من علماء المسلمين اللسان اليوناني واللاتيني وكتبوا معاجم
في اللسانين. وذلك كله ليأخذوا العلوم من أصولها، وينقلوها إلى لسانهم على
حسب ما يصل إليه علمهم فيها، وكان المعلمون لأبناء العظماء في أول الأمر من
المسيحيين واليهود ثم أنشئت المدارس الجامعة وكان المدرسون فيها من كل ملة
ودين. كلٌّ يعلّم العلم الذي عرف هو بالبراعة فيه.
* * *
(علوم العرب واكتشافاتهم)
كان علم العرب في أول الأمر يونانيًّا لكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم
صار عربيًّا. ولم يرض العربيّ أن يكون تلميذًا لأرسطو وأفلاطون أو إقليدس أو
بطليموس زمنًا طويلاً كما بقي الأوربي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ
المسيحي.
قالوا: إن باكون هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية
وأقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين وأطلق العلم من رق
التقليد. ذلك حق في أوربا. أما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء
العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة. أول شيء تميز به فلاسفة العرب
عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربيات وأن لا
يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة حتى لقد نقل
جوستاف لوبون عن أحد فلاسفة الأوربيين: أن القاعدة عند العرب هي (جرّب
وشاهد ولاحظ تكن عارفًا) وعند الأوربي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ
المسيحي (اقرأ في الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالمًا) . (فلينظر
المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلب الحال، وماذا أعقب من سوء المآل)
قال ديلاَمبْر في تاريخ علم الهيأة: (إذا عددت في اليونان اثنين أو ثلاثة من
الراصدين أمكنك أن تعد من العرب عددًا كبيرًا غير محصور) . أما في الكيمياء
فلا يمكنك أن تعد مُجَرِّبًا واحدًا عند اليونانيين ولكنك تعد من المجرّبين مئين عند
العرب، ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم. وقد كانوا
يعدون الهندسة والفنون الرياضية من الآلات المنطقية، يستعملونها في الاستدلال
على القضايا النظرية، وهي من أصدق الأدلة في الإيصال إلى المجهولات كما هو
معروف.
العرب هم أول من استعمل الساعات الدَّقَّاقة للدلالة على أقسام الزمن وهم
أوّل من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض. وقد اكتشفوا قوانين لثقل
الجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة كما وضعوا
جداول للأرصاد الفلكية وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون في
سمرقند وبغداد وقرطبة حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف
الجاذبية.
لا يمكنني في مقالي هذا أن أعدّ ما اكتشف العرب ولا ما زادوه في العلوم
على اختلاف أنواعها فذلك يحتاج إلى سِفْر كبير. وقد أحصى ذلك أهل المعرفة
والإنصاف من فلاسفة الأوربيين ومؤرخيهم. وربما يتيسر لأبناء الأمة العربية أن
ينشروا ذلك لإخوانهم حتى يعرفوا ما كان عليه أسلافهم [١] ولكني أذكر كلمة قالها
بعض حكماء الغربيين [٢] : (تأخذنا الدهشة أحيانًا عندما ننظر في كتب العرب فنجد
آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا كالرأي الجديد في ترقي الكائنات العضوية
وتدرجها في كمال أنواعها فإن هذا الرأي كان مما يعلّمه العرب في مدارسهم وكانوا
يذهبون به إلى أبعد مما ذهبنا، فكان عندهم عامًّا يشمل الكائنات غير العضوية
والمعادن.
والأصل الذي بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقي المعادن في أشكالها.
قال الخازني: إذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء أن الذهب قد تقلب في
الأشكال المختلفة حتى صار ذهبًا ظن من هذا أنه مرَّ في صور معادن أخرى فكان
رصاصًا ثم قصديرًا ثم صُفرًا ثم فضة ثم صار بعد ذلك ذهبًا. ولا يعلم أن الفلاسفة
إذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم في الإنسان أنه وصل إلى حالته
الحاضرة بالتدريج ومن طريق الترقي وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب في صور
الأنواع المختلفة كأنْ كان ثورًا ثم حمارًا ثم فرسًا ثم قردًا ثم صار بعد ذلك
إنسانًا) . اهـ، ويقول الفيلسوف كوستاف لوبون: (إن العرب أول من علّم العالم
كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين) .
وهنا أنكر على بعض فلاسفتهم ما نقلوه عن ابن رشد من أنه ذهب في حرية
الرأي إلى نقض أصل الدين وقال: إن الروح لا بقاء لها بعد فناء الجسد وإنما الذي
يبقى هي أرواح الأنواع. فإن هذا خطأ عرض لهم من سوء فهم كلامه في بيان
بقاء الأنواع دون الأشخاص فإنه قال كما قال أرسطو وغيره: إن الأشخاص توجد
وتفنى، وأما الأنواع فهي باقية لا تزول. وهذا باب آخر يغير بالمرة ما استنتجوا
منه (وقد سبق الكلام في بيان رأيه من وجه آخر) [٣] كما أخطأوا في قولهم عنه
أنه كان يعتقد بأن الله روح العالم يظهر في صورة والكل يرجع إليه بمعنى: أنه يفنى
في ذاته ولا يبقى في العالم باقٍ آخر وهو يقرب من قولهم السابق. فإن ابن رشد
كان مسلمًا وكان يعرف أن الإسلام لا ينافي العلم وإنما ينافي هذا الضرب من الوهم
الذي لم يسقط فيه أحد إلا من عثرة في طريق العلم أو الاسترسال مع الخيال.
وكثير ممن سكروا بهذا الرأي أفاقوا منه. ولكن كتب ابن رشد التي بين أيدينا تبعد
بنا عن نسبة هذا الرأي إليه كما سبق بيانه [٤] ولكني لا أنكر نسبته لو نسب إلى ابن
سبعين وهو ممن أخذ عن تلامذة ابن رشد فإن في كلامه ما يدل على ذلك.
ويقول فيلسوف آخر: (إن العلوم التي تلقاها العرب عن اليونانيين وغيرهم
وكانت ميتة بين دفات الدفاتر مقبورة بين جدران المكاتب أو مخزونة في بعض
الرءوس، كأنها أحجار ثمينة في بعض الخزائن لا حظَّ للإنسانية منها سوى النظر
إليها - صار عند العرب حياة الآداب، وغذاء الأرواح، وروح الثروة، وقوام
الصنعة، ومهمازًا للقوى البشرية يسوقها إلى كمالها الذي أعِدَّتْ له. وليس في
الأوربيين من درس التاريخ وحكم العقل ثم ينكر أن الفضل - في إخراج أوربا من
ظلمة الجهل إلى ضياء العلم وفي تعليمها. كيف تنظر وكيف تتفكر وفي معرفتها أن
التجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يبنى عليهما العلم - إنما هو للمسلمين
وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم وأدخلوها من أسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا
عليهم. وكان من حظ العلم العربي والأدب المحمدي عندما دخلا إلى إيطاليا أن
البابا كان غائبًا لأن كرسيه كان انتقل إلى فرنسا في أفنيون نحو سبعين سنة فدبّ
العلم إلى شمال إيطاليا واستقر به القرار هناك. إن شوارع باريس لم تفرش
بالحجارة إلا في القرن الثاني عشر وقد رصّت بالبلاط على نحو ما رصّت به مدن
أسبانيا) . اهـ
ويقول آخر: (لا أدري كيف أعطانا الإسلام في مدة قرنين عددًا من الفلكيين
يطول سرد أفراده وإن الكنيسة تسلّطت على العالم المسيحي اثني عشر قرنًا في
أوربا ولم تمنحنا فلكيًّا واحدًا) .
هذا النماء والزكاء العلمي لم يكن خاصًّا بطائفة دون طائفة بل كان الناس في
التمكن من تناوله سواء، وإنما كان التفاضل بالجِدِّ والعمل، والفضل في ذلك كله
لحلم الخلفاء وعمّالهم، وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته. قال
بعض فلاسفة الغربيين قولاً يعرفه الحق وتثبته المشاهدة: (إن شعوب الأرض لم
تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحلم هذا المبلغ (يريد فاتحي الإسلام على اختلافهم) ولا دينًا
بلغ في لينه ولطفه هذا الحد) .
* * *
(أخذ الخلفاء والأمراء بيد العلم والعلماء)
إن الخلفاء الذين يقال عنهم: إنهم رؤساء دين وحكام سياسة معًا كانوا هم
بأنفسهم المتعلمين للعلوم الداعين إلى تعلمها. كانوا العالمين العاملين. كان خليفة
كالمأمون يضطهد أحيانًا أعداء الفلسفة، وقد عرف التاريخ كثيرين من أرباب
الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين؛ لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنًّا
منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده. هل رأيت في غير الإسلام رئيسًا
يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة؟ لعلك لا تجده أبدًا.
كان أهل العلم والأدب عامة يجدون من الاحترام عند الخلفاء والأمراء
والخاصة ما يليق بهم كيفما كان حالهم. وسأضرب المثل بالشيخ أبي العلاء المعري
لشهرته بين الناس بما يشبه الزندقة: يذكر عليُ بن يوسف القفطي أن صالح بن
مرداس صاحب حلب خرج إلى المعرة وقد عصى أهلها عليه فنازلها وشرع في
حصارها ورماها بالمنجنيق فلما أحسّ أهلها بالغَلب سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان
وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه ثم قال:
ألك حاجة؟ قال: الأمير أطال الله بقاءه كالسيف القاطع لان مسّه وخشن حده،
وكالنهار البالغ قاظ وسطه وطاب برده {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩) ، فقال له صالح: قد وهبتها لك. ثم قال له:
أنشدنا شيئًا من شعرك لنرويه فأنشده على البديهة أبياتًا فيه فترحل صالح. فانظر
كيف وهب الأمير بلدًا عصى أهله لفيلسوف معروف بما هو عنه معروف، ولو
ذكرت ما نال العلماء والفلاسفة عند الأمراء والخلفاء لطال بي المقال أكثر مما طال
وفيما سبق كفاية لمكتف.
* * *
(إزالة شبهتين وبيان حقيقة الاضطهاد)
قد يتوهم قوم أن الاضطهاد قد يظهر في مقت العامة وخلقهم ما يخلقون من
المفتريات على أهل العلم والفكر الحر وهمس بعضهم في آذان بعض وتغامزهم
على أهل الفضل، ولمزهم إياهم بالألقاب بل واحتقارهم في بعض الأحيان وهذا
النوع منه عند المسلمين بلا نكير، وهو خطأ ظاهر؛ لأن هذا النوع مما يكره أهل
العلم لا تخلو منه أرض ولا تطهر منه بلاد مهما بلغ أهلها من الحرية ومهما بلغ
ذوق العلم من نفوس أهلها فإن القائمين على عقيدة الكاثوليك إلى اليوم في أرض
فرنسا نفسها يمقتون الفلاسفة الذين يظهرون بمعاداة الكنيسة ويكتبون ما يوهن
قواعدها وقد يخلق عليهم أحزاب الكاثوليك ما لم يقولوه، ويرون أن النظر في كتبهم
لا يجوز في شريعة الدين. ونحن لا نرتاب في أن نحو هذا كان عند المسلمين أيام
كانت سوق الفلسفة رائجة عندهم ولكنه ليس من الاضطهاد في شيء وإنما هي نفرة
الإنسان مما لا يعرف مع ترك صاحبه وشأنه يمضي في سبيله إلى حيث يشاء.
يقول آخرون: إن التاريخ يروي لنا أن بعض أرباب الأفكار قد أخذه السيف
لغلوّه في فكره فلم يترك له من الحرية ما يتمتع به إلى منتهى ما يبلغ به وليس
يصح أن ينكر ما صنع الخليفة المنصور وغيره بالزنادقة.
وأقول: إن كثيرًا من الغلوّ إذا انتشر بين العامة أفسد نظامها وأضرّ بأمنها
كما كان من آراء الحلاج وأمثاله [٥] فتضطر السياسة للدخول في الأمر لحفظ أمن
العامة فتأخذ صاحب الفكر لا لأنه تفكر ولكن لأنه لم يرد أن يقصر حق الحرية على
شخصه بل أراد أن يقيد غيره بما رآه من الحرية لنفسه مع أن غيره في غِنى عمّا يراه
هو حقًّا له، وتخشى الفتنة إذا استمر مدعي الحرية في غلوائه لهذا يرى حُفاظ النظام
أن أمثال هؤلاء يجب أن يُنقَّى منهم المجتمع صونًا له عما يزعزع أركانه. ونحن
نرى الفلسفة اليوم تضطهد الدين هذا الضرب من الاضطهاد. ألم تقض الحكومة
الفرنسية على الراهبين والراهبات أن تكون جمعياتهم ومدارسهم تحت سيطرة
الحكومة وأن لا ينشأ شيء منها إلا بإذن من الحكومة، ومن لم يخضع لذلك تنحل
جمعيته وتقفل مدارسه بقوة السلاح. وقد ينفى من البلاد كما نفي كثيرون في سنين سابقة؟ ولكن هل يسمَّى هذا اضطهادًا؟ كلا ولكن الاضطهاد حق الاضطهاد هو اضطهاد محكمة التفتيش واضطهاد رؤساء الإصلاح بعدها في أول نشأتهم.
ماذا يقول القائلون؟ إن التعليم عند المسلمين كان غريبًا أمرُه، يكاد يكون خفيًّا والمتكلم والمحدث والنحويّ والمتأدب والفيلسوف والفلكي والمهندس! ينتقل الطالب من بين يدي الفقيه ليجلس بين يدي الفيلسوف ومن مجلس الحديث إلى مجلس الأدب. وإذا وقعت مذاكرة بينهم في مسألة من المسائل أخذت الحرية مأخذها في الإقناع والإلزام وسقطت قيمة الغلوّ في التعبير وأخذ التسامح بينهم مأخذه. كان عمرو بين عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة في أصول مذهبه ومع ذلك هو من مشايخ الإمام البخاري صاحب الصحيح وكانت له منزلة عند المنصور تعلو كل ذي منزلة عنده حتى قال له يومًا وهو خارج من بين يديه: (رَميتُ لكل الناس حَبًّا فلقطوا إلا أنت يا عمرو بن عبيد) فانظر كيف كان لإمام من أئمة السنة أن يصل سنده في الحديث برئيس من رؤساء المعتزلة ولا يرى في ذلك بأسًا.
إذا عدَّ عادٌّ بعض رجال العلم الذين أخذتهم القسوة في الإسلام وقتلتهم حماقة
الملوك بإغراء الفقهاء وأهل الغلوّ في الدين فما عليه إلا أن ينظر في أحوالهم فيقف
لأول وهلة على أن الذي أثار أولئك عليهم ليس مجرد العصبية للدين، وأن ليست
الغيرة عليه هي الباعث لهم على الوشاية بهم وطلب تنكيلهم. وإنما تجد الحسد هو
العامل الأول ذلك كله والدين آلة له. ولهذا لا ترى مثل ذلك الأذى يقع إلا على
قاضي قضاة (كابن رشد ورجوع الحاكم إلى العفو عنه وإنزاله منزلته دليل على
ذلك) أو وزير أو جليس خليفة أو سلطان أو ذي نفوذ عظيم بين العامة. وهذا كما
يقع من الفقهاء مثلاً لإيذاء الفلاسفة يقع من الفقهاء بعضهم مع بعض لإهلاك بعضهم
بعضًا كما يشهد به العيان ويحكي لنا التاريخ، فليس هذا كذلك معدودًا من معنى
اضطهاد الدين للفلسفة؛ لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة
وإن لبسوا لباسه. وإنما ذلك الاضطهاد هو الذي يحمل عليه محض الاختلاف في
العقيدة أو ظن المخالفة للدين في شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع
المخالف بجانبه وهذا لم يقع في الإسلام، اللهم إلا أن يكون حادث لم يصل إلينا.
هذه طبيعة الدين الإسلامي عرضت عليك في أهمّ عناصرها ومقوّمات مزاجها.
وهذا كان أثرها في العالم الشرقيّ والغربي. وهذه سعة فضل الدين وقوته على
احتمال مخالفيه وتيسيره لأولئك المخالفين أن يحتموا به متى رضوا بأن يستظلُّوا
بظله، هل في هذا خفاء على ناظر، وهل يرضى لبيب لنفسه أن ينكر الضوء
الباهر، أفلا يبسم الإسلام عجبًا وهو في أشدّ الكرب لعقوق أبنائه، من أديب لم
يكن يعده من أعدائه إن لم يحسبه في أحبائه، عندما يراه يسدّد سهمه إليه، ويجور
كما يجور الجائرون في حكمه عليه؟
((يتبع بمقال تالٍ))